سارا القرني
غرقتُ في الأيام الماضية في القراءة عن جماليات اللغة في القرآن الكريم، وعن الإعجاز اللغوي والإعجاز الرائع بالمفردة، وتذكرتُ حديث إحداهنّ لي منذ زمن طويل.. قالت «تقرئين القرآن فتزدادين طمأنينة، ولكن لو تدبّرتِ القرآن وعرفتِ مقاصده.. ستزدادين طمأنينة ويقيناً وإيماناً» فطوبى للمتدبرين!
لن أنسى كلماتها ما حييت.. فلذلك عكفت بين فترة وأخرى على قراءة تفاسير القرآن والإعجاز اللغوي فيه، تشدّني مفردةٌ فأبحث عنها، وتعلق في ذهني آيةٌ فأُبحر في معانيها وأقوال المفسرين حتى إذا قرأتها مرةً أخرى.. توافق الغرض والمقصد، فالغرض هو قراءتي للقرآن والمقصد هو ما يخبرني به القرآن.
في قصة مريم عليها السلام عندما جاءها المخاض.. أوحى لها الله {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} قال بعض المفسرين إنه كان جذع نخلةٍ يابسةٍ هزّته فتساقط عليها الرطب، وقالوا، بل كان جذعاً يابساً هزته فإذا هو نخلةٌ جنيّة، لكني لا أرى معجزةً في أن يصبح الجذعُ اليابس نخلة، لأنّ الله قادر على كل شيء وقد قرأنا في القرآن ما هو أعجب من هذا، فأين تكمن المعجزة؟ وعلقت الآية في ذهني حتى قرأت يوماً ما أنّ المعجزة هي أنّ مريم عليها السلام في مخاضها منهكةً متعبةً تقاسي الآلام، حدّ أنها قالت {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}؛ يأمرها الله أن تهزّ جذعاً ليسقط عليها الرطب! أيّ قوةٍ لدى أحدنا كي يهز نخلة ليسقط رطبها وهو في كامل عافيته؟ لا نملك هذا، إذاً كيف بامرأةٍ تعاني كلّ هذا أن تهزها؟!
ولأنّ معجزة اللهِ لم تكُن في إحياء النخلة.. بل في ما هو أكبر، معجزة اللهِ كانت في أنّ مريم هزّت النخلة في مخاضها بقوةٍ خائرة.. فلم يتساقط الرطب فحسب، بل كان «جنِيَّاً» كثيراً، هذا ما يريد أن يضعه الله في قلب مريم عليها السلام، أنني معكِ بهذه الأمور التي ترينها صعبة مستحيلة.. فأنا بقدرتي أكون معكِ لتصبح بسيطة لا هول فيها!
امرأةٌ تؤمنُ باللهِ حق الإيمان.. ثمّ ترى بعينها وتجرب نفسها لطف الله وقدرته وعظمته، لن تهاب شيئاً ولن يوقفها شيء، لذلك ذهبت مريم إلى قومها واثقةً تحمل صبيّها عليه الصلاة والسلام، شامخةً لا تحرّكها نظرات الناس ولا لمزهم وكلماتهم واتهاماتهم.. لأنها توقن أنّ الله معها، وهذا ما كان!
لم ينتهِ الأمرُ بالنسبة لي.. ما زالت الآيةُ عالقةً في رأسي، وأقول في قلبي إنّ في الآية رسالة مخبأة لنا، فالقرآنُ للناس رسالةٌ حتى تقوم الساعة، يربّينا بمنهجه القصصي تارةً وبرسائله المباشرة تارةً أخرى، حتى وقعتُ يوماً على تغريدةٍ لا أتذكر صاحبها يقول فيها «إنّ الله يعلّمنا الأخذ بالأسباب، مهما كان الأمر مستحيلاً وصعباً علينا أن نسعى وسيحقق الله المراد إذا شاء» ثمّ استدلّ على كلماته بقول الله لمريم {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} وقد فعلت مريم ما أُمرت به وأخذت بالأسباب فهزتها، فأبهرها الله بعظيم لطفه وعجائب قدرته»!
في القرآن ما تقشعرّ له القلوب إذا تدبرناه وفهمنا مقاصده والرسائل التي تتجلى لنا فيه، وقد تأمّل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما زمناً في قول الله {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يبحث عن معنى لكلمة «فاطر» لكنه لم يجد ما يقنعه، حتى عرفه صدفةً.. وحكى ذلك رضي الله عنهما فقال: «لم أعرفْ معنى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلا من شجار أعرابيين حول بئر، كلّ واحدٍ منهما يدّعيها لنفسه، فقال أحدهما للآخر: أنا فطرتها! يريدُ أن يقول: أنا بدأتها!