م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. بعد الحرب العالمية الثانية واستقلال كل الأقطار العربية تفاءل العرب بأن قطار النهوض قد انطلق.. ولم يفطنوا إلى أن معظم تلك الأقطار سوف تُنْتَهك حقوقها من قبل حُكْم غير رشيد.. أدخل مجتمعاتهم في تيارات اشتراكية وبعثية وقومية وإسلامية أدت إلى انتكاسات مريرة.. وأدخلتهم في أزمنة غير زمنهم المعاصر، وأفكار مجتمعات غير مجتمعاتهم، مما أفقدهم الوعي بالتقدم فزادت تناقضاتهم.. وتحولت أولوياتهم من التنمية والنهوض إلى الحرب والدمار والأذية تحت مبررات قومية ومذهبية وحزبية.. زَيَّفوا خلالها التاريخ ووجَّهوه.. فتراجعوا عوضاً عن أن يتقدموا.. وغلبت عليهم الجهالة، وتفشت فيهم الأمية، وغاب الوعي، وشاعت فيهم الكراهية.. كل ذلك مَزَّق نسيجهم الاجتماعي وزرع العداوات بينهم.. وأصبحت الوطنية قضية فيها نظر.
2. مع مطلع الخمسينيات من القرن الماضي كانت الروح المعنوية للعرب عالية عندما أحسوا أن اللحظة المنتظرة للنهوض قد أتت وأن المستقبل حتماً وردي.. فعرب الجزيرة العربية قد اكتمل توحدهم وعرب الشمال وعرب شمال إفريقيا قد حصلوا على استقلالهم ولم يبقَ سوى العمل.. كانت لحظات مثالية غارقة في الرومانسية شعروا خلالها أنهم خرجوا من ظلام السنين الغابرة وأتى الزمن الجديد بلباسه وعاداته وسلوكياته الجديدة.. وبَدَوْا مستعدين لزمن النهوض واليقظة الفكرية بكل تبعاته وواجباته ومستلزماته.. حتى اختطف العسكر الحكم في معظم الأقطار العربية وتفرغوا لمناكفة الأقطار التي لم تسقط في انقلاباتهم.. وخلقوا الانشقاق بين المجتمعات العربية؛ فهذا اشتراكي، وهذا قومي، وهذا بعثي، وهذا رجعي، وهذا خائن، وهذا عميل، وهذا عار على العروبة.. حتى استفاقوا على هزيمة (1967م) فكانت نكسة عسكرية واقتصادية ومجتمعية وفكرية أرجعت الجميع سنين إلى الوراء.
3. قضى العرب سنينَ عجافاً بعد هزيمة (1967م) يتشاتمون ويتهمون بعضهم البعض.. وأصبحت قضية فلسطين هي قضية المصير التي تأتي قبل كل شيء بما في ذلك التنمية.. وأصبحت فلسطين وسيلة الخلاف والشقاق بين العرب.. حتى أصبح موضوع تحرير القدس يمر عبر العديد من العواصم العربية بدأت بعمان ثم الرياض ثم القاهرة ثم بيروت ودمشق.. ولم تستقر بعد.. ثم أتى عام (1979م) الذي شهد ارتفاع التيار الأصولي بنجاح ثورة إيران وصعود التيار الصحوي في المملكة واغتيال أنور السادات في مصر.. فدخل العرب في حقبة جديدة لا تنظر للمستقبل بل تنظر للماضي لاستدعاء الحلول المرجوة.. مما نتجتْ عنه أفكار وأعمال أدت ليس فقط إلى تدمير اقتصاد العرب وإيقاف تنميتهم بل إلى تشويه سمعتهم وسمعة دينهم وأنهم أمة ذات دين يحرض على العنف.
4. كان عام (1979م) عاماً كارثياً على العرب.. ففي الوقت الذي ظن العرب أن الطائفية والمذهبية قد خبت أمام التمدن الذي انتشر في المجتمعات العربية إلا أن التيار الديني الطاغي استرجع كل الثارات القديمة بين مذاهبه وشُعَبِه.. وشن حرباً في كل قطر عربي فيه جالية غير مسلمة.. كما شن حرباً أكثر ضراوة على الأقليات من المذاهب الإسلامية الأخرى.. ولم يكتف بذلك بل حارب حتى أصحاب الأفكار الليبرالية وشوه فكر التسامح والتعايش، واستعدى الدول والمجتمعات البعيدة والقريبة، وأفشى في الناس أفكار السحر والجن والعين، وأشاع ثقافة التشدد والعنف مع المخالف.. وانقسم الناس مثقفوهم وعامتهم إلى أحزاب وفئات تؤلب وتستعدي الآخرين على بعضها.. مما دفع الأقليات إلى الاستنجاد بالخارج تحت غطاء الحماية والدفاع عن النفس.. وهو ما ساعد على انفراط عِقْد الوطن.. ودخول البلاد العربية في حروب أهلية استنزفت الجميع وزادت من الشقاق بين فئات المجتمع، وجعلت رأب الصدع أمراً صعباً بعيد المنال.