د. تنيضب الفايدي
اشتهرت منطقة عسير منذ القدم ببعض مواقعها التاريخية، ولعلّ موقع عسير بين كندة في الشرق، ونجران ومدن ممالك جنوب الجزيرة العربية في الجنوب، ومكة المكرمة ومدن شمال الجزيرة العربية في الشمال، إلى جانب مرور الطريق التجاري عبر أجزاء عديدة منها، جعلها مسرحاً لمختلف التأثيرات الحضارية، فظهرت بعض المراكز التجارية الهامة مثل: جرش بوصفها واحدة من أبرز حواضرها، وبلغت أوج ازدهارها خلال فترة ما قبل الإسلام، واستمرت خلال الفترة الإسلامية،
وفي الجانب الآخر ظهرت برك الغماد على ساحل البحر الأحمر، وكذلك ضنكان في ساحل تهامة، وتبالة، وبيشه، ناهيك عن المدن والقرى والآبار والمحطات التي تنتشر في أنحاء المنطقة، بما تحويه من معالم عمرانية وكتابات ونقوش صخرية، ولم تكن جرش فقط هي وحدها التي اشتهرت خلال العصر الإسلامي في تلك الجهات فحسب، وإنما ظهرت في ساحل تهامة العديد من المدن الأخرى، التي لم تكن أقلّ أهمية من جرش، ومنها البرك التي مارست دوراً مهماً على درب الحاج اليمني الساحلي، الذي كان يمرّ عبر السهل الساحلي، والذي أسهم في نشأة وازدهار العديد من القرى والمدن التي أدت دوراً بوصفها محطات على الطريق الذي يربط اليمن بمكة المكرمة.
وبرْك الغماد أو البرْك من المواقع التهامية المعروفة عند المؤرخين والجغرافيين العرب وكتّاب السير الذين أشاروا إلى موقعها وإلى الأهمية التاريخية، وقيل في تسميتها أنها سميت نسبة إلى أول قبيلة استوطنت فيها وهم قبيلة البرك (البرك بن وبرة بن تغلب) ثم سميت باسم برك الغماد نسبة إلى شهرة المدينة بصناعة السيوف وأغمدة السيوف، ويرجع تاريخ البرك إلى ما قبل الإسلام حيث عثرت بها نقوش قديمة يرجع تاريخها إلى 4000 سنة قبل بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم-، ومما يدل أيضاً على أن البرك معروفة منذ ما قبل الإسلام أن أحد زعماء قريش في الجاهلية وهو عبد الله بن جدعان مات ودفن بالبرك، قال الشاعر:
سقى الأمطارُ قبرَ أبي زهير
إلى سَقْفٍ، إلى برْكِ الغِمادِ
وجاء ذكرها في التاريخ الإسلامي عندما خرج الصحابي الجليل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مهاجراً إلى الحبشة قبل هجرته إلى المدينة، فلما بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة (زعيم قبيلة القارة) فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصلِّ فيها وليقرأ ما شاء...». صحيح ابن حبان برقم (6868)، كما جاء ذكر برك الغماد في غزوة بدر فحينما شَاوَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حِينَ بَلَغَهُ إقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، َتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فأعْرَضَ عنْه، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فأعْرَضَ عنْه، فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، فَقالَ: إيَّانَا تُرِيدُ يا رَسولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لو أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا البَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، ولو أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إلى بَرْكِ الغِمَادِ لَفَعَلْنَا، قالَ: فَنَدَبَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حتَّى نَزَلُوا بَدْرًا). رواه مسلم، وقد خصص برك الغماد في الحديث النبوي لبُعده عن المدينة حيث يبعد عن مكة جنوباً ما يقارب (500) كم وبُعد المدينة عن مكة ما يقارب هذه المسافة أيضاً أي: أن الوصول إليه من الصعوبة بمكان، بل كانت وصولهم إليه كالمعجزة آنذاك، بل تتساوى صعوبتها مع صعوبة ركوب الأمواج.
ولشهرتها فقد ذكرها أكثر المؤرخين، قال الحموي في كتابه معجم البلدان (1/ 475): «برك الغِماد: بكسر الغين المعجمة، وقال ابن دريد: بالضم والكسر أشهر، وهو موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقد ذكر برك الغماد محمد بن أبان بن حريز الخنفري، فقال:
فدع عنك من أمسى بغور محلها
ببرك الغماد فوق هضْبة بارحِ
وقال الحارث بن عمرو الجزلي من جزلان:
فأجلوا مفرقا وبني شهاب
وجلّوا في السهول وفي النجاد
ونحو الخنفرين وآل عوف
لقصوى الطّوق، أو برك الغماد
وقال ابن خالويه: أنشدنا ابن دريد لنفسه فقال:
لستَ ابن عمّ القاطنين
ولا ابنَ أُمَّ للبلادِ
فاجعل مقامك، أو مقر
ك جانبي برد الغماد
وانظر إلى الشمس التي
طلعت على إرَمِ وعادِ
وقال الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب (ص366):
أن البرك تقع في حرة كنانة، ثم يورد حديث سعد بن معاذ الأنصاري والمقداد بن عمرو -رضي الله عنهما- في غزوة بدر. وكان لموقعها على الطريق بين مكة واليمن أهمية اقتصادية وحربية كبيرة، وهناك عشرات المواقع على طريق تهامة التجاري القادم من اليمن وإليها، والذي تسلكه قوافل قريش وغيرها في تجارتها شتاءً، كما أن هناك طريقاً تجارياً أعلى في جبال السروات القادم من اليمن والشحر وحضرموت يسمى الطريق السروي (نسبة إلى سراة)، ولكن الشهرة لبرك الغماد عن بقية القرى لورود ذكرها في غزوة بدر التي لا ينطفئ وهجها ولا يخفت نورها (مهما دارت الأيام)، ولذلك اشتهر برك الغماد، كما اعتُنِيَ بتحصينها وتسويرها منذ وقت مبكر، ولا تزال بقايا أسوارها شاخصة إلى اليوم.
وتمتاز البرك بطبيعتها الساحرة حيث الأودية الخضراء والشواطئ الجميلة مثل: شاطئ النهود، شاطئ زهران، وشاطئ العش، كما تحتوي البرك عدداً من الآثار منها: سور البرك الأثري اللافت للنظر يرجع تاريخ بناء هذا السور إلى 629هـ، وما زال يقاوم الزمن حتى الآن، ومسجد أبي بكر الصديق وهو من أبرز المعالم التاريخية في محافظة البِرك، والحصن الأثري ويبدو أنه كان أكثر من طابق.
وفي العهد السعودي عندما قام الملك عبدالعزيز آل سعود بتوحيد المملكة العربية السعودية قام بإرسال ابنه الأمير فيصل بن عبد العزيز إلى جنوب المملكة، كما عُين الشيخ عبدالله بن سليمان الحميد قاضياً وإماماً ومرشداً من قبل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حيث بعث مع مجموعة كبيرة من طلبة العلم من عموم منطقة القصيم إلى المناطق الجنوبية للمملكة وذلك عام 1346هـ، وهذه من مآثر الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في سبيل نشر العلم والقضاء على الجهل في تلك الديار.