عبدالوهاب الفايز
استمراراً لما طرح الأسبوع الماضي حول استخدام اللغة العربية في المناسبات والاحتفالات.. نواصل اليوم الحديث عن هذا الموضوع الهام. وما يهمنا هنا هو التأكيد على أن اهتمام القيادة بضرورة الالتزام باستخدام اللغة العربية واضح وصريح، وهو يتضح في وثيقة (رؤية المملكة 2030)، وفي الأنظمة السيادية التي تؤكد على أن اللغة العربية هي لغة الاستخدام الرسمي ولغة المناسبات الرسمية العامة. وهذا يعني أن الأجهزة الحكومية عليها دور رئيسي لتنفيذ رغبة القيادة هذه في أن تظل اللغة العربية رمز الهوية الوطنية وأحد مكوناتها الأساسية.
وهذا الموقف يتضح أيضاً من خلال مبادرات وزارة الثقافة ومشاريعها التي تستهدف تعزيز الهوية الوطنية. فقد أطلقت مشروع الطابع أو الطراز المعماري السعودي الذي ينبثق من الهوية الوطنية السعودية، وأطلقت مبادرة القهوة السعودية. أيضاً الوزارة ولقناعتها بأهمية المحافظة على الهوية الوطنية اهتمت بالخط العربي (نظراً لما يمثله الخط العربي من أهمية واتصال وثيق باللغة العربية، وما يمتلكه من تاريخ وجماليات في هندسته وتفاصيله وأشكاله، والتي تبرز مخزوناً ثقافياً إبداعياً يعكس ثراء الثقافة العربية). وخصصت عام 2021 ليكون عاماً مميزاً للاحتفاء بالخط لأنه (رمز من رموز هوية المملكة)، ولأجل إبراز فن الخط العربي بوصفه فنًا قائمًا بذاته، ويعكس ثراء الثقافة العربية. وكان هدف الوزارة جعل بلادنا حاضنة للخط العربي، وراعية له، والأهم: أن تكون (رائدة في دعم ونشر ثقافة استخدام الخط العربي بين النشء).
ولإبراز فن الخط العربي وتنمية المعرفة المرتبطة بقواعده الأساسية وعناصره الجمالية، أطلقت الوزارة في العام المخصص للخط العربي (مسابقة الخط العربي لطلاب المدارس والجامعات). كل هذه المبادرات مؤشر على أن المكون الثقافي للهوية الوطنية محل عناية القيادة ومؤسسات الدولة السعودية، وبرامج رؤية المملكة.
إذاً العاملون بالأجهزة الحكومية وقياداتها لم يراعوا ما هو مدون ومنصوص عليه في الأنظمة الأساسية السيادية، ولا يحرصون على تنفيذه في أعمال الحكومة ومناسباتها، فهذه مشكلة التنفيذ، وهذا يحتاج الاهتمام والمتابعة من الأجهزة السيادية التي تتولى مراقبة تنفيذ الأنظمة للتأكد من عدم الإخلال بها، مثل نزاهة. من يخالف هذه التعليمات فهو الذي يتحمل المسؤولية، ولا تتحمل القيادة وزرها.
ونحتاج مراقبة الانضباط باستخدام اللغة العربية في أعمال المؤسسات العامة والخاصة في جوانب أخرى مهمة. هناك جانب سلبي لأعمال الحكومة، وحتى القطاع الخاص، وهو استخدام اللغة الإنجليزية في الأمور المتخصصة المهنية مثل الشؤون المالية والحسابات وعقود المحاماة. تراجع استخدام العربية في هذه المجالات المهنية أمر سلبي وخطير، ويؤثر على جودة المخرجات، ولا ينمي تطور المحتوى العلمي العربي، وهذا التوجه يعد أحد مسارات التسريع لضياع الهوية الوطنية.
إذا تساهلنا في الأمور الأساسية المكونة للهوية الوطنية، فقد يؤدي هذا إلى ضياع جيل من شبابنا. فالأجيال دون هوية يصبحون بلا شخصية وطنية. والحفاظ على الهوية الوطنية للمراهقين والشباب يوازي أهمية حمايتهم من شرور الإرهاب. لقد خضنا حرباً مرهقة لحماية شبابنا وبلادنا من الحواضن الفكرية للعنف والإرهاب. لقد تورط جيل من أبنائنا بهذا المسار المدمر نتيجة إهمالنا للبرامج والمشاريع الفكرية التي تعرض لها.
ربما نحتاج مستقبلاً إلى جهد وطني مكثف لاستعادة أهمية اللغة العربية إذا توسعنا في المدارس الأجنبية التي تدرس باللغة الإنجليزية، وتساهلنا في استخدام العربية في المناسبات العامة، وفي المعاملات المهنية. إننا نخشى هجر العربية وعدم الاهتمام بها نتيجة (البرمجة الفكرية والثقافية) التي يتعرض لها جيل كامل. هذا هو مصدر التهديد للهوية الوطنية.
فاتورة البرمجة هذه لن نعرف كيف نحصي مدخلاتها، فالاغتراب النفسي، والانعزال الاجتماعي، والاستلاب الثقافي تكلفته عالية على الشعوب. وتقدير هذه التكلفة الشاملة على المجتمعات المعاصرة سيكون أمراً مطروحاً بقوة الآن وفي السنوات القادمة، بالذات مع ترسخ دور وسائط التواصل الاجتماعي في التنشئة الاجتماعية. فهذه أصبحت مؤسسة جديدة تشكل الوعي والسلوك للأطفال والمراهقين. والمؤسف أن معظم ما يتوفر في الفضاء الرقمي خطير جداً على القيم الدينية والثقافية والوطنية.
وأخيراً يبقى السؤال الذي نتمنى نجد الإجابة الدقيقة عليه هو: ما هو الثمن الذي سوف ندفعه من تراجع مكون الهوية الوطنية في جيل كامل؟ ربما تكون التكلفة عالية, وهذه سوف تضاف إلى الفواتير المستحقة الآن لمعالجه أمور عديدة تواجه الشباب مثل إدمان المخدرات. فمتوسط تكلفة علاج المدمن بالمملكة تقدر بـ1500 ريال لليوم الواحد، وهذا دون التكلفة المركبة الأخرى الممتدة للمكافحة الأمنية الميدانية، بالذات تكلفة أرواح الشهداء والجرحى من رجال أمننا الذين يحملون أرواحهم على أكفهم البيضاء النقية في حربهم على المخدرات.
والحمد لله إننا نحتفي ونسعد الآن في البوادر السريعة لنجاح الحملة الوطنية التي يقودها سمو ولي العهد لحماية شبابنا بولادنا من شرور المخدرات.