نظم كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية في جامعة اليمامة يوم الثلاثاء 9 مايو 2023 محاضرة لسعادة الأستاذ الدكتور ناصر عبدالرازق الموافي أستاذ النثر العربي القديم في جامعة القاهرة، وأدار اللقاء سعادة الأستاذ الدكتور صالح بن معيض الغامدي أستاذ السيرة الذاتية والنثر العربي في جامعة الملك سعود. وقد حضر المحاضرة عدد من المهتمين بالدراسات النثرية والشعرية من الأكاديميين. وفيما يلي نص المحاضرة:
في البحث عن النوع/ النص المركزي في الحضارة العربية الإسلامية: من الشعر والنثر إلى القرآن الكريم.. دراسة في النقد الثقافي
يرى الغذامي أن الخطاب الأدبي قد أتى» على درجة مرعبة من التجانس والتطابق التام، حتى لا نرى فرقا بين الشعر والنثر، ولا بين شعر وشعر، أو بين عصر وعصر»(25). ولا يعني التجانس والتطابق التام أن ثمة مساواة، بل إن النثر رضي بدور التابع المطيع، ولم يحاول أن يشارك «في إنقاذ النسق الثقافي العربي من سلطة اللفظ الشعرى. وأين هو الخطاب النثري الحر/ العقلاني الذي حلم به أبو حيان- إذا كان الفتح النثري هو من عبد الحميد وابن العميد؟». (26) وإذا كان لم يشر صراحة إلى النثر حين وضّح أن» شخصية الشحاذ والكذاب والمنافق والطماع- من جهة، وشخـصية الفرد المتوحد فحل الفحول ذي الأنا المتضخمة النافية للآخر- من جهة ثانية، هي من السمات المترسخة في الخطاب الشعرى، ومنه تسربت إلى الخطابات الأخرى»(27)، فإنه كان أكثر صراحة وتوضيحا حين تحدث عن» النثر الذى تشعرن منذ وقت مبكر»(28).
قد نتساءل: هل تشعرن النثر بإرادته أم إنه تعرض لخداع عن طريق برمجته، وتأتي الإجابة بأنه إذا «ما كانت البلاغة هي تصوير الحق في صورة الباطل، أي قتل الحقيقة، فإن اللازمة الدلالية تفضي أيضا إلى تصوير الباطل في صورة الحق، وهذا هو الدال النسقي الذي به ستتم برمجة الذات الثقافية العربية، وكان من أخطر أدوات هذه البرمجة هي في شعرنة النثر مثلما جرت شعرنة الذات... وجرت أيضا شعرنة القيم»(29).
إن إصدار الأحكام يكون منطقيا حين تُسبق بشرح وتفسير، أما إطلاقها دون التمهيد الكافي لها فإنه يضعها موضع الشك.. إن بعض الأحكام ظاهر البطلان وبعضها لا يتوفر على أدلة كافية،على سبيل المثال فإن الزعم بأن البلاغة العربية هي تصوير الحق في صورة الباطل، ومن ثَمّ تصوير الباطل في صورة الحق- يتعارض مع ما استقر من أن البلاغة هي» مطابقة الكلام لمقتضى الحال».
غير أن الجزم بأن النثر كان تابعا للشعر احتاج إلى تفصيل يتوقف عند أنواعه ونصوصه وأعلامه... نال نص «كليلة ودمنة» ونوع «المقامة» نصيبا ملحوظا من نقد الغذامي، وبالتالي تعرض ابن المقفع وبديع الزمان الهمذاني للتشهير... إننا- حسب الغذامي» نجد تقديرا عاليا لكتاب (كليلة ودمنة)؛ لأنه ينتسب إلى المؤسسة الرسمية، فكاتبه (مترجمه) هو أحد فحول الخطاب الثقافي، كما أنه كتاب معمول للملوك ومن يوصفون بالعقلاء؛ فلذا هو ينطوي على الحكمة والعقل»(30). لقد احتوى النص السابق على حزمة من الأحكام غير المسلم بها؛ فابن المقفع الذي قُتل ببشاعة من ممثل السلطة لا يمكن أن يكون منتسبا حقيقيا للمؤسسة الرسمية، كما أن كتابه أُلف لكل المستويات الثقافية.. كل منها يفسره حسب هواه، وحياته هي سلسلة مستمرة من المعارضة للحاكم أو للدين أو للعروبة بشكل غير مباشر غالبا- حتى إنه متهم بأنه أصل كل «زندقة».
أما بديع الزمان ومقاماته فقد أُلصقت بهما مجموعة من القيم السلبية- حتى وإن كانت في أصلها إيجابية؛ فقد كانت «القمة النسقية مع (المقامة)، وهي أبرز وأخطر ما قدمته الثقافة العربية كعلامة صارخة على فعل النسق، حيث تتجاور العيوب النسقية وتتكثف في نص واحد؛ فالبلاغة اللفظية المتنازلة عن أية قيمة منطقية، وغير المعنية بسؤال العقل والفكر، مع حبكة الكذب المتعمد من أجل التسول الذى أصبح مهنة أدبية تكتسب قبولا ثقافيا، وتحولت إلى مادة أساسية في التربية الذوقية والثقافية، وتتضافر الحبكات الثلاث: الكذب والبلاغة والشحاذة لتكون قيما في الخطاب الثقافي، حتى ليسمى مبتكر هذا الفن ببديع الزمان، وكأن ذلك عندهم هو قمة القمم الإبداعية»(31). وتعميم الحكم هنا ينطوي على مبالغة ؛ فمن «التبسيط المخل اعتبار الكدية الهدف الوحيد للمقامات، فثمة مقامات لا كدية فيها... وليست كل المقامات تتضمن خدعة أو حيلة.. ثمة مقامات فكاهية وأخرى وعظية وبعضها ينتقد السلوك الاجتماعي.
إن الموضوعات متنوعة، ولكنها لا تكشف عن قضية أساسية يتبناها الهمذاني، فمن الواضح أن الموضوعات جاءت كيفما اتفق لتخدم إطارا شكليا نمطيا أو مخترعا، لذا يكون من قبيل المبالغة تحميل المقامات بأفكار ليست من صنع صاحبها الأصلي ولا أولوياته»(32).
وما ينطبق على ابن المقفع وبديع الزمان الهمذاني من أحكام، ينسحب على غيرهما من أعلام النثر؛ «فابن العميد والصاحب بن عباد وأبو إسحاق الصابي كلهم من ذلك النسق والطينة»(33).
أما من يتمرد معتقدا أن النثر هو الخطاب الحر والعقلاني- في مقابل الشعر الفاقد لهاتين الصفتين- حتى وإن كان كلامه مجرد نقل عن آخرين- فإن أفكاره تكون «مجرد تطلعات حالمة لمفكر نادر عاش بحلمه وقتا وانتهى بإحراق أحلامه وكتبه، وهذه- كما هو معلوم- هي نهاية أبى حيان»(34).
والمحصلة النهائية أنه لا فرق بين الشعر والنثر من حيث حملهما للقيم السلبية، وأن النثر- من خلال نصوصه المتميزة وأعلامه البارزين، كان تابعا للشعر من حيث مفاهيمه ووظائفه- وإن اختلفت الأدوات.
4 - النثر والشعر: وجوه الاتفاق والاختلاف:
إن مطالعة الآراء الكثيرة المتنوعة التي توازن بين الشعر والنثر ستوصل إلى نتيجة واضحة هي أن ثمة فروقا بينهما سوى الوزن والقافية. قد تتمثل هذه الفروق في فكرة العبودية والحرية- التي نقلها أبو حيان، أو فكرة الحس الشعرى مقابل العقل النثري.. لكن لا شك أن مقولة» الشعر ديوان العرب» رفعت من قيمة الشعر في بيئة بدوية تعلي من قيمة البديهة والارتجال، ولكن هذه القيمة تعرضت لهزة في الجاهلية حين تكسب الشعراء بشعرهم وحين اتخذوه أداة لتحقيق مآرب فردية، فأصبح الخطيب- الناثر- فوق الشاعر. ثم جاء الإسلام ولم يعول كثيرا على الشعر- والدلائل على ذلك كثيرة؛ فالقرآن الكريم حذر من أن غالبية الشعراء ليسوا على الطريق القويم، وأنهم يقولون ما لا يفعلون- إلا فئة قليلة. ولم يكن موقف الرسول- عليه الصلاة والسلام- بعيدا عن موقف القرآن الكريم، وهو ما دفع «علي الوردي» في كتابه «أسطورة الأدب الرفيع» إلى تتبع مساوئ الشعر العربي، والحكم بأنه «إذا كان للشعر منافع فله مضار أيضا، وربما كان ضرره بالأمة العربية أكبر من نفعه لها... الشعر العربي مملوء بالمساوئ، وأستطيع أن أعده ابتلاء ابتُليت الأمة العربية به في جاهليتها وإسلامها»(35). غير أننا لا نقبل التعميم؛ فقـد تراوحت مكانة الشعر والشعراء صعودا وهبوطا، وقد يتوقف ذلك على الزمان والمكان، وهو ما لاحظه حازم القرطاجني في قوله: «كثير من أنذال العالم- وما أكثرهم- يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة. وكان القدماء من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيه ضد ما اعتقد هؤلاء الزعانفة، على حال قد نبه إليها أبو على بن سينا فقال: كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي فيُعتقد قوله، ويُصدق حكمه، ويؤمن بكهانته. فانظر إلى تفاوت ما بين الحالين: حال كان ينزل فيها منزلة أشرف العالم وأفضلهم، وحال صار ينزل منها منزلة أخس العالم وأنقصهم»(36).
وثمة من يقدر الشعر، ولكنه يرى النثر أفضل كالقلقشندي صاحب «صبح الأعشى» الذى يرى أن للشعر مزايا- إلا أن» النثر أرفع منه درجة وأعلى رتبة وأشرف مقاما وأحسن نظاما.. وناهيك بالنثر فضيلة أن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز.. ولم ينزل على صفة نظم الشعر.. وحرّم نظمه على نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- تشريفا لمحله وتنزيها لمقامه، منبها على ذلك بقوله: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له»(37). ويضرب القلقشندي أمثلة للضرورات الشعرية التي تجعل معانيه تابعة لألفاظه، كما يعرج على المقاصد السلبية للشعر ويقارنها بالمقاصد الإيجابية للنثر- شريفة الموضوع حسنة التعلق. ولا مانع لديه من غمز الشعر مذكرا بأن العرب أحست بانحطاط رتبة الشعر عن رتبة الكلام المنثور.
ويخصص أبو حيان التوحيدي الليلة الخامسة والعشرين للمقارنة بين النثر والشعر، فينقل عن أعلام عصره ما يرجح كفة هذا الرأي أو ذاك، لكن ما نقله يرجح بوضوح كفة النثر؛ فأبو عابد الكرخي يرى أن» النثر أصل الكلام والنظم فرعه». ومن شرفه أيضا استخدام الرسل والكتب السماوية له، وأن «الوحدة فيه أظهر وأثرها فيه أشهر، والتكلف منه أبعد، وهو إلى الصفاء أقرب. ولا توجد الوحدة غالبة على شيء إلا كان ذلك دليلا على حسن الشيء وبقائه وبهائه ونقائه». وينقل عن عيسى الوزير أن «النثر من قبل العقل، والشعر من قبل الحس، ولدخول النظم في طي الحس دخلت عليه الآفة». أما ابن طرارة فيرى أن» النثر كالحرة والشعر كالأمَة. والأمة قد تكون أحسن وجها وأدمث شمائل وأحلى حركات، إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة ولا بشرف عرقها وعتق نفسها وفضل حيائها».
ثم ينقل نصا مطولا عن ابن كعب الأنصاري ينطوي على مواضع دالة؛ فمن شرف» النثر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينطق إلا به آمرًا وناهيا، ومستخبرا ومخبرا، وهاديا وواعظا، وغاضبا وراضيا، وما سُلب النظم إلا لهبوطه عن درجة النثر، ولا نزه عنه إلا لما فيه من النقص، ولو تساويا لنطق بهما، ولمّا اختلفا خُص بأشرفهما الذي هو أجول في جميع المواضع، وأجلب لكل ما يطلب من المنافع»(38).
على الجانب الآخر جغرافيا- أعني الغرب الإسلامي، وخاصة الأندلس، وصلتنا نصوص كثيرة في المفاضلة بين الشعر والنثر؛ حيث فضل بعضهم الشعر وفضل بعضهم الآخر النثر، وفريق ثالث وازن بينهما ورأى أن هذا يحسن في مواضع وذاك يحسن في أخرى - إلا أن المزاج العام كان يميل لتفضيل النثر لأسباب دينية وأخلاقية. ابن شهيد في «رسالة التوابع والزوابع» يرى أن الخطباء أولى بالتقديم، وابن حزم- معاصره- يحرِّم معظم الشعر ويجعل مباحه مكروها لأنه قائم على الكذب، و»كان لموقف ابن حزم أثر واضح في توجيه سير المفاضلة بين الشعر والنثر لدى عدد من النقاد الأندلسيين الذين أتوا بعده كابن بسام الشنتريني وابن عبد الغفور الكلاعي، وغيرهما ممن مالوا إلى تفضيل النثر على أساس من النزعة الدينية الأخلاقية التي كان ابن حزم قد بذر بذورها، وأرسى قواعدها في الحكم للشعر أو عليه»(39).
أما السرقسطي- في المقامات اللزومية فقد عنون المقامة الخمسين بعنوان» في النظم والنثر»، وتجرى فيها محاورة بين أنصار الشعر وأنصار النثر، وكان مما احتج به أنصار النثر أنه «أيسر مطلبا وأدر حلبا، وأطوع عنانا، وأنفذ سنانا. به تُملك الممالك وتُسلك المسالك، وتخدم الرياسة وتقام السياسة، وتصان الأحوال وتحفظ الأموال.. بألفاظه توثق العهود ويضبط الشاهد والمشهود، وتحلى التواريخ وتزين وتعرف الوقائع وتبين... ويكفي النثر من الفضيلة والرتب الجليلة تضمنه لسائر العلوم، وإن ندر مجيئها باللفظ المنظوم. وأعظم من ذلك أنه معجزات خير البرية، وأكرم بذلك مزية شرف وشرف مزية..»(40).
في العصر الحديث يلاحظ زكي مبارك- كما لا حظ كثيرون- أن النثر لم يحظ بعناية النقاد العرب القدامى- إلا ما كان من كتب اختصت بأدب الكتّاب والكتابة، ولكن كانت هناك مساجلات بين من يفضلون النثر ومن يفضلون الشعر؛ فالثعالبي يفضل النثر وابن رشيق يرد عليه مفضلا الشعر، وينقل ما قصه الثعالبي عن عبد الصمد بن المعذل وأبى تمام؛ حيث أرسل الأول للثاني- وقد قصد البصرة وشارفها، بأبيات من الشعر يبين فيها أنه طالبٌ أبدا إما لوصال من حبيب أو لنوال، وأي ماء سيبقى لحر وجهه بين ذل الهوى وذل السؤال؟! «فلما بلغت الأبيات أبا تمام قال: صدق والله وأحسن، وثنى عنانه عن البصرة وحلف ألا يدخلها أبدا»(41). وهي قصة تدل على أن مكانة الشعراء كانت تتعرض للاهتزاز من حين لآخر، وتبين- من جانب آخر- أن أبا تمام ليس ذلك الشخص الذي حدثنا عنه الغذامي. وفي موضع آخر يورد البيت الشهير للشافعي عن إزراء الشعر بمكانة العلماء.
غير أن زكي مبارك يخلص في مجال المفاضلة بين النثر والشعر إلى أن طبيعة الموضوع هي التي تحدد النوع الأدبي المناسب؛ فإذا «كان موضوع القول متصلا بالمشاعر والعواطف والقلوب كان الشعر أوجب لأن لغته أقدر على التأثير والإمتاع، وإذا كان الموضوع متصلا بإعمال العقل والفهم والإدراك كان النثر أوجب»(42).
إن أهم ما يمكن ملاحظته أن فكرة المفاضلة بين النثر والشعر كانت ملحة على فئات متعددة، وأن أحدا لم يسلِّم أنه لا فرق بينهما، أو أن النثر يتبع الشعر ويحمل قيمه نفسها.. وأن كفة النثر أرجح من الشعر.. وفي أسوأ الأحوال فإن أحدهما لا يفضل الآخر.
من ناحية أخرى فإن التركيز كان واضحا- فضلا عن الفروق الفنية والموضوعية التي لا يمكن تجاهلها- على الأغراض التي يستخدم فيها كل منهما، وعلى المكانة الاجتماعية لكل من الشعراء والناثرين- وهي أمور تصب في أغلبها في مصلحة النثر على حساب الشعر.
ومن الجوانب المهمة التي يمكن استخلاصها من المفاضلة بين الشعر والنثر أن الموقف الديني والأخلاقي كان يصب في اتجاه النثر؛ فالنثر رمز الخير، والشعر منه أغراض تنحو منحى الشر كالهجاء والمدح المتكسب. والنثر جاءت به الكتب السماوية، وبه تكلم الرسل، كما حوى العلوم منشئة الحضارات.
والخلاصة أن النثر لم يسر في ركاب الشعر، وهو الأقرب إلى صحيح الدين، وللسبب الأخير وأسباب أخرى متنوعة فإن الرأي الغالب يفضله على الشعر، وهو ما لا يتفق مع ما ذهب إليه الغذامي.
5 - من الشعر إلى القرآن الكريم:
أشرنا- فيما سبق- إلى أن الغذامي فضل الشعر على النثر بطرق مختلفة، وكان الأولى به أن يتحدث عنهما على أنهما وحدة واحدة هي الأدب أو الخطاب الأدبي، ومع ذلك فليس مسلما أن الشعر وحده- أو الأدب- عامة كان المؤثر الأول والأهم في النسق الثقافي العربي؛ لأن هذه المكانة يحتلها القرآن الكريم بلا منازع. والمقارنة بين القرآن الكريم وتأثيره ومكانة الشعر وتأثيره- إن جازت- ستظهر أن البون بينهما شاسع قديما وحديثا؛ فالقرآن الكريم كلام الله المتعبد بتلاوته، المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم- المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المعجز ولو بسورة منه. القرآن الكريم كلام الله لفظا ومعنى، تكفل الله تعالى بحفظه ويسر له من الأسباب ما يكفل هذا الحفظ. والقرآن الكريم المعجز بلاغيا وعلميا إعجازا دائما فشل العرب أهل الفصاحة- ومنهم الشعراء- في تحديه. والقرآن الكريم يُتلى ليل نهار، ولا يمر وقت لا يتلى فيه لاختلاف الزمان والمكان، ولا يخلق من كثرة الرد أو تخفي عجائبه، ويبلغ من المكانة في نفوس المسلمين أن أعداءهم إذا أرادوا أن يكيدوا لهم كادوهم فيه، وحينئذ يتمنى المسلم أن تكون المصيبة في نفسه لا في كتاب ربه. وقد يسر الله تعالى كل الوسائل الحديثة لخدمته؛ فهي تنشره وتيسر الوصول إليه بأشكال متجددة مبتكرة، وتساعد على حفظه والبحث فيه وفيما يتصل به، لتعود الأمة إلى موردها العذب الصافي؛ لتنهل منه، ولتعيد تصحيح مسارها.
والقرآن الكريم هو المرجع والملهم في آن، عليه قامت الحضارة الإسلامية؛ فحوله - أو بسبب من دعوته إلى العلم وإعمال العقل- نشأت علوم كانت الأسس التي قام عليها بناء هذه الحضارة في فترة وجيزة أبهرت العالم وحققت الريادة للعرب والمسلمين. ولو أردنا الاستدلال على ما أسلفنا فسيطول بنا المقام؛ ففي القرآن الكريم نفسه، وفي الحديث الشريف كذلك، وفي آراء العلماء المسلمين وغيرهم من المنصفين- ما يرفع من مكانة القرآن الكريم حتى لا يدانيه شيء في تأثيره.. إنه بلا شك الكتاب الذى لا ريب فيه، ولا نظير له أو شبيه.
إن المقارنة بين القرآن الكريم والشعر العربي- إن جازت كما أسلفنا- من حيث أثرهما في الثقافة العربية- وحدها أو ضمن الثقافة الإسلامية- ستخرج بنتيجة واحدة هي التفوق الملحوظ للقرآن الكريم. ومن ثم يطرح السؤال التالي نفسه: هل معنى ذلك أن القرآن الكريم يتحمل تبعة ما في الشخصية العربية/ الإسلامية من عيوب نسقية وقيم سلبية؟ الإجابة: لا؛ فالقرآن الكريم يدعو إلى القيم الإيجابية ويبثها في نفوس المسلمين- حين يتمسكون به، أما حين يهجرونه أو لا يتدبرونه ولا يعملون بموجبه فأمرهم موكول إلى أنفسهم، ومن ثم تسود القيم السلبية. والقرآن الكريم يدعو إلى قيم أصيلة وثابتة وجوهرية وإنسانية لا تتغير عبر الزمان والمكان، وإنما يتغير فهمها ومدى الالتزام بها.
إن القرآن الكريم لا يتغير، وإنما يتغير المسلمون اقترابا منه أو ابتعادا عنه، وفي الحالتين كلتيهما فإنه قائم؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه. وقد يكون جديرا بالملاحظة ذلك التناقض الواضح بين ما يعتقده معظم المسلمين وما يفعلونه.. إنها حالة من الفصام قد تدفع إليها ظروف داخلية أو خارجية. ومن المؤكد أنه حين تتطابق الأفعال مع المعتقدات الصحيحة فإن الحال سوف يتغير إلى الأفضل بإذن الله.
وإذا كان القرآن الكريم هو أساس الإسلام، فإن هذا لا يعني إغفال دور المكونات الأخرى للخطاب الديني في تشكيل النسق الثقافي الإسلامي/العربي عبر العصور، مثل: الحديث الشريف والفقه وعلم الكلام وغيرها من العلوم التي نشأت في كنف الإسلام.
وحول مركزية النص القرآني في الحضارة العربية الإسلامية سيدور بحثنا التالي- بمشيئة الله تعالى - مع تفصيلات تتناول القضية من وجوه عدة تتعلق بطبيعة العلاقة بين الخطاب الديني والخطاب الأدبي، وتتوقف عند ماهية القرآن الكريم من حيث تعريفه ومصدره ونصه وإعجازه وآداب تلاوته الظاهرة والباطنة.
كما يتناول أثر القرآن الكريم في حياة العرب وفي نشأة العلوم الدينية وفي اللغة والأدب وفي التوجيه نحو الاهتمام بالعلوم الأخرى. كما يبحث في علاقة المسلمين عبر العصور بالقرآن الكريم، وعلاقة غير المسلمين به- في مسعى لإثبات مركزية النص القرآني في الحضارة العربية الإسلامية، وأن الإيمان به والعمل بمقتضاه هما السبيل لاستعادة الحضارة العربية الإسلامية مكانتها.
الهوامش:
1 - عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة.. نحو نظرية نقدية عربية، عالم المعرفة، الكويت، العدد 272، أغسطس 2001، ص9.
2 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربى: الدار البيضاء- بيروت، 2000، ص89.
3 -عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص7.
4 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص ص 93-94.
5 - سعد الغامدي: الاتجاهات الحداثية العربية الجديدة في الساحة النقدية»، «مجلة البيان»: العدد (208) يناير/فبراير (2005م)، نقلا عن بدر بن محمد ناضرين: دراسة عقدية لكتاب النقد الثقافي، جامعة أم القرى، كلية الدعوة وأصول الدين، 1429هـ، ص30.
6 -بدر بن محمد ناضرين: دراسة عقدية لكتاب النقد الثقافي، ص42.
7 - سعيد علوش: نقد ثقافي أم حداثة سلفية؟ المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2010، ص67.
8 - سعيد علوش: نقد ثقافي أم حداثة سلفية؟ ص68.
9 - علوش: نقد ثقافي أم حداثة سلفية؟ ص76.
10 - علوش: نقد ثقافي أم حداثة سلفية؟ ص78.
11 - علوش: نقد ثقافي أم حداثة سلفية؟ ص76.
12 -عبد الرحمن بن إسماعيل السماعيل: الغذامي الناقد.. قراءات في مشروع الغذامي النقدى، كتاب الرياض، العددان 97 و98، ديسمبر 2001- يناير 2002، ص85.
13 -عبد الرحمن بن إسماعيل السماعيل: الغذامي الناقد، ص114.
14 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص121.
15 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص128.
16 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص260.
17- السماعيل: الغذامي الناقد، ص262.
18 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص266.
19 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص328.
20 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص329.
21 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص330.
22 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص339.
23 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص349.
24 - السماعيل: الغذامي الناقد، ص477.
25 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص25.
26 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص107.
27 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص ص93-94.
28 -عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص ص87-88.
29 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص112.
30 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص58.
31 -عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص110.
32 -ناصر عبد الرازق الموافي: القصة العربية... عصر الإبداع (دراسة للسرد القصصى في القرن الرابع الهجرى)، دار الوفاء للطباعة والنشر، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة 1996، ص ص 70 - 71.
33 -عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، مرجع سابق، ص110.
34 - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، ص ص 105-106.
35 -على الوردي: أسطورة الأدب الرفيع، منشورات سعيد بن جبير، قم، 2005، ص80.
36 -المرايا المقعرة، ص329 - نقلا عن حازم القرطاجنى: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامى، بيروت، 1981، ص124.
37 -أبو العباس أحمد القلقشندى: كتاب صبح الأعشى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر (العدد 130)، 2004، ص59.
38 -أبو حيان التوحيدى: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت، د.ت، 2/132-135.
39 - شريف راغب علاونة: المفاضلة بين الشعر والنثر في التراث النقدى الأندلسى، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 8، ع 37، 1427 هـ، ص ص 466 - 467.
40 - شريف راغب علاونة: المفاضلة بين الشعر والنثر، ص468.
41 - زكي مبارك: النثر الفني في القرن الرابع، المكتبة التجارية- مطبعة السعادة، 1934، 1/ 21.
42 - زكي مبارك: النثر الفني في القرن الرابع، 1/ 26.
** **
- أ.د. ناصر عبد الرازق الموافي