رقية نبيل
ليس المهم الغلاف، بل الأهم هو فحوى الكتاب، كلنا بالطبع متفقون حول هذه النقطة، ليس مهمًا عنوان الحكاية، بل المهم هي الحكاية نفسها، إن عناوين أجاثا كريستي ليست هي من أوصلها لمجدها، بل الحبكة المعقدة والشخصيات الواقعية والدراما والرومانسية والغموض الذي تشبعت به رواياتها، وهذا ببساطة هو ذات ما ينطبق على روايات هاري بوتر!
إن من يعرف هاري بوتر من بعيد أو يسمع عنه فأول ما يتبادر إلى ذهنه سيكون التعاويذ وعصيان المكانس الطائرة والقلعة الخيالية والحيوانات غريبة الشكل التي كنا نسمع عنها في طفولتنا وكبرنا لنعرف أنها جزء من خيال لن يتحقق قط على أرضنا، حسنٌ هذا مفهوم تمامًا، ولذا ينظر كل هؤلاء إلى عشاق روايات هاري بوتر بنظرات الاستهجان، فمَن هذا الطفل الذي لم يكبر بعد؟ مَن هذا الذي يسمح لعقله الواعي الناضج أن تنطلي عليه هذه التفاهات؟!
وأقول لهم ببساطة إن ما جعل الملايين تعشق هاري بوتر ليس السحر والكائنات الخرافية والتعاويذ الطائرة! لا، وإن كان هذا جزءاً لا يتجزأ من جاذبيتها لكن السبب الرئيسي هي ما تدور عليه قصص هاري بوتر، الغموض والألغاز والتشويق والحب والكره والدراما والمفاجآت التي لا تتوقف، الربط المذهل بين كل أجزاء الروايات السبع، الشخصيات التي يتضح لك أمور عنها بعد مئات الصفحات فتكره الخيّر وتجد نفسك فجأة وقد أحببت من كنت تعتبره «شرير الحكاية» طوال الوقت!
ربما لأنه ببساطة ما من خيِّر أو شرير بالكامل، وبطلك الذي ترفعه عاليًا عاليًا يحوي عيوبًا ومثالبَ مثلك وأكثر، وله أخطاء في الماضي يحاول دفنها وأوجه يجاهد لمواراتها وأبواب مواربة يكافح لإغلاقها حتى لا تفوح الروائح المقيتة من ورائها!
وكذلك الشرير قد لا يكون دومًا شريرًا خالصًا فثمة نقاط مضيئة في روحه لا تدري أنت عنها شبئًا..
هذا ما يعنيه هاري بوتر، الصداقة والمرح، المدرسة بأجوائها وردهاتها وفصولها ودروسها، الامتحانات التي تأتي في النهاية وتترك دومًا في آخر فمك مذاقًا مختلفًا، الصداقة والضحك والمرح البريء، الشخصيات التي تنمو رويدًا رويدًا نحو النضج وعالم الكبار وتكبر أنت معها.. كل هذه أمور حقيقة تمامًا واقع عشته وستعيشه دومًا وهذي كلها هي قلب هاري بوتر الحقيقي، مغلف بالسحر والخيال والأراضي القصية التي لا تقترب من حياتنا بشيء، لذا فإن الغلاف ساحر بلا شك لكن الفحوى هو ما أحيا هاري بوتر بهذه الصورة وهو ما جعل قلوب الملايين تتعلق به وينمو كبذور سحرية في روحها أشجار وحدائق غناء لا يمكن قطعها أو النيل منها.
إن جوان في الحقيقة شخص عذب للغاية بمثل وقيم ومبادئ راسخة ترفض تمامًا الحياد عنها، شخص يعرف قيمة الحب وكيف يمكن أن يقلب الموازين كلها ويغير حروبًا بأكملها، فكل معروف قدمه هاري مهما كان صغيرًا انعكس عليه فيما بعد، وكل حياة أنقذها كانت سببًا في إنقاذ حياته هو، إن الحب والصدق والوفاء يمكن لهم أن يغيروا كل شيء، والاختيارات التي تلقيها الحياة في طريقنا ونتخذها بإرادتنا هي ما يحدد مصيرنا، كل طريق سرتَ فيه سوف تصل آخرًا لعاقبته.. وهذا المغزى الذي لأجله كتبت جوان رواياتها السبع، وكل هذا العالم السحري الخيالي المتخم بالخرافات والأساطير ما هي إلا جزء آخر عشقته طفلة ولم تستطع التخلي عنه.
حينما وجدت الهجوم الشديد عليها وعلمت أن سببه هو كره الكاتبة لعالم المتلونين والمتحولين وأنصاف النساء وأشباه الرجال وكون الكاتبة لا تبذل جهدًا في إخفائها بغضهم، بل وتبدي الآراء السلبية حولهم طوال الوقت ازددتُ رغمًا عني تقديرًا لهذه الكاتبة الطفلة.
وتبقى حقيقة أن هاري بوتر بات جزءًا لا يتجزأ من طفولة الملايين، يذكّرهم بماضٍ لن يعود، حين كانت الحياة أكثر بساطة وكانت رواية جديدة عن الفتى الساحر تعني كل شيء في العالم!.. أما عنّي فأعترف أنها تعيدني لأجواء مطبخ أمي الذي كنت أحب أن أفترش فيه وحدي ومعي الكيس المملوء حتى آخره بصفحات رواية الأمير الهجين الممزقة وكوب النسكافيه الساخن قبل أن يجدنني أخواتي الخمس ويلحقن بي في «جلستي» وتعلو ثرثرتهن وكل واحدة منهن تعد مشروبها المفضل، أوقاتًا بريئة غافلة عن الدنيا المزدحمة القلقة، نائمة أبدًا في عالم سحري خيالي لن يكبر.