يعد خليف الشمري من الباحثين السعوديين المتألقين في التاريخ السعودي، امتازت كتاباته وأبحاثه بالجدية والأصالة، فأسهم بأبحاثه الرصينة وكتاباته التاريخية في إثراء المكتبة السعودية، وفي هذا البحث الذي نشرته مجلة الدارة في عددها الرابع، أكتوبر 2022م، طرق جانباً مهماً من مكونات المجتمع المحلي، حيث تناول أحد الأدوار المهمة في تاريخ المرأة الحربي في الجزيرة العربية في القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الميلاديين، وعني البحث بالتعريف اللغوي والتاريخي للعطفة والعمارية، والفرق بينهما، وتحديد الشروط والمواصفات الواجب توافرها عند اختيار الفتاة الراكبة لتصبح عَطفة الحرب أو عمارية، وُرصد أسماء أهم العماريات المشاركات في الحروب القَبلية، والحملات والمعارك الكبرى مع قبيلتها ضمن جيوش الدول والإمارات العربية في الجزيرة العربية، كما استعرض البحث المهمات والواجبات الموكلة للمرأة والكشف عن مصائر أولئك الفتيات في ميادين القتال، وتتبع المراحل التاريخية المختلفة لظهور مركب العطفة واندثاره عند القبائل.
أماط البحث اللثام عن أحد الجوانب الجوهرية في موضوع المرأة العطفة أوالعمارية، من حيث أهم الشروط والمواصفات الواجب توافرها عند اختيار الفتاة الراكبة لتصبح عَطفة الحرب أوعمارية، والتحقُّق من مشاركة المرأة العربية البدوية العَطفة والعمارّية في الحملات الحربية الكبرى، وَرْصد أهم المعارك المشاَرك فيهَا، واستعراض المهمات والواجبات الموكلة للعطفة وعماريات الحرب، والكشف عن مصائرهن في ميادين القتال، فضلا عن تتبع المراحل التاريخية المختلفة لظهور العمارّيات والعطف المحاربات في الجزيرة العربية واندثارهن.
بين الباحث أن دراسة موضوع حيوي ومهم كدور المرأة الحربي، لابد من تنوع المادة المرجعية فيه، فقد اعتمد في دراسته البحثية على المصادر المعاصرة والدراسات الحديثة ومراجع مختلفة، من أبرزها رحلات المستشرقين الذين زاروا المنطقة، وكتبوا عن حياة الصحراء، بجانب الدراسات التاريخية الحديثة، والدراسات الأنثربولوجية، كما أفاد الباحث من الرواية المحلية في سد النقص الحاصل لبعض الأحداث، وبحكم قرب مدة الدراسة فقد تواصل الباحث -مشكوراً- مع بعض الرواة الذين نقلوا رواياتهم من أشخاص معاصرين، أومن أصحاب الشأن أنفسهم، فأفادت الرواية الشفهية الدراسة بفك الرموز التي أهملها المؤرخون، إذ تعد الرواية في الذاكرة الشعبية المحلية من أهم مراجع المنطقة. كما أفاد الباحث من الشعر النبطي الحديث، وهو بمنزلة كنز علمي يمكن أن ندرس منه تاريخ الجزيرة العربية والنجدية في العصرالحديث، ويُسِهم في فهم طابع الثقافة البدوية. فحين نمعن النظر في ِشْعر تلك المدة نلحظ معالم الثقافة البدوية، دون الخروج عن إطار القيم البدوية.
ولو تتبعنا تاريخ العربي وخاصة البدوي نجد أن حياته مرتبطة بالنساء والخيل والإبل؛ لأنها أغلى الموجودات قيمة في نفسه، ولذا فهو مستِعد أن يبذل روحه في سبيل الدفاع عنهم.
ومن هذه الأهمية التي تمتلكها المرأة في حياة الرجل البدوي، فقد كانت من العوامل الرئيسة والمحركات القوية التي تبث روح الحماسة والشجاعة والرجولة في كيانه، ويبدو أن هذه الظاهرة كان لها الأثر الفعال عند البدوي، لذا يستميت في القتال والدفاع عنها.
وضح الشمري في بحثه أنه من عادات العرب المعروفة في حروبهم مشاركة المرأة في المواقع الحربية الكبرى بين القبائل، متعددة أدوارها التي تقوم بها في تلك الحروب، ومنها أنها مسؤولة عن معالجة المصابين والجرحى وتضميد جراحهم، والإشراف على الأسرى في المواقع التي تشترك بها، وتوفير ماء الشرب للمقاتلين، وإعداد الطعام لهم، إضافة إلى حضور المرأة القوي ومتابعة جميع أحداث المعركة، فتعطي كل ذي حق حقه، فتمدح وتثير حماس الفرسان للدفاع والقتال والاستبسال، وذم وشجب وتشهير الفارين والمختبئين، والتقليل من شأنهم.
وفيما يتعلق بتسمية المرأة التي تشارك في ساحة القتال، فقد عرفت المشاركات في القتال وتشجيع الفرسان بتسمية: بنات طارق، إذ كان لهن دور مهم في كبرى المعارك والأحداث في أيام العرب، مثل: يوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على الفرس، فشارك بنات طارق على هوادجهن مع قبائلهن، وكان دورهن محّرضات، مشجعات للفرسان ورجال القبيلة بالقتال والدفاع عن شرف القبيلة وسمعتها.
تناول البحث جانباً مهماً من جوانب الدور الحربي للمرأة وهو مواصفات العَطفة والعمارية، وماهي الشروط والمواصفات الواجب توافرها عند اختيار الفتاة لتصبح الراكبة عطفة الحرب أو عمارية، وقد تعددت الشروط والمقاييس التي لابد أن تتحلى بها الفتاة لتكون جديرة بأن تمتلك لقب «العطفة»، ومن أهمها الحسب والنسب، فلا بد تكون ذات حسب ونسب وأصل رفيع، وأن تكون الفتاة ذات حسن، وجمال فاتن، إلى درجة أن يقع الخصوم في غرامها قبل الفرسان المدافعين عنها. وأن يكون لها ضفائرأوجدائل طويلة، فالشعر الطويل صفة من صفات الجمال عند البدو. وكذلك الشجاعة والجرأة، وهذا شرط اتفقت عليه المصادر والمراجع، فلابد أن تكون العمارّية شجاعة وجريئة، وتدرك خطورة مشاركتها، وأنها معرضة للهجوم، ومعرضة بدرجة كبيرة للقتل، فلا يجوز الرجوع ولا الفرار، ولحرص رجال القبيلة على هذا الشرط في الفتاة نجد لديهم تخوفا من الفتَاة التي تشارك لأول مرة، برغم أنها تُقدم على ركوب العطفة بإرادتها وبإلحاح منها، لكنها من المحتمل أن ترتبك عند دخول المعترك الحقيقي، ولاسيما إذا كانت صغيرة في العمر، وفي هذه الحالة يكون هناك بديل للراكبة من ذوات الخبرة، ومن اللاتي يُشَهد لهن بالشجاعة والإقدام. وكذلك من المهم إجادة فن الحداء، أو ما يسمى حداء الحوارب، لذا أطلق عليها مسمى الحداءة، فتغني العمارّية بصوت جميل، وتُطلق الأهازيج الحماسية مصحوبة بالزغاريد، فيكون وقعها على نفسيات المحاربين ومعنوياتهم وقع السحر، وتكون ذات صوت قوي وجهوري مسموع، ونَفُسها طويل، ليصل صوتها مسامع الفرسان.
أيضاً من الضروري أن تمتلك العمارية الذكاء والفطنة وسرعة البديهة، وأن تكون متحِّدثة بليغة. فوجودها في هذا المكان يحتم عليها أن تكون من يمتلكن هذه المهارة.
بين الباحث في دراسته البحثية أسماء العديد من العماريات اللاتي كان لهن دور فاعل بمشاركتهن الحربية، ومنهن: جميلة بنت ابن هذال، سكر بنت الحميدي الهذال، عبطا بنت بنية الجربا، حصة بنت الحميدي الهذال، وغيرهن.كما بين الباحث طبيعة مشاركة العطفة والعمارية في الحرب، حيث تكون العطفة بمنزلة الراية في المناخات والمواقع الحربية الكبرى بين القبائل العربية، ومن تلك المواقع التي شاركت فيها العطفة والعمارّية مناخ بصالة 1238هـ/ 1822م، ومناخ السبيخة عام 1239هـ/ 1823م، ومناخ الرضيمة 1238هـ/ 1823م، ووقعتا الوفرة وملح 1276هـ/ 1860م، ووقعة عويند الثانية عام1288هـ/1871م، ولكون طلال 1290هـ/ 1873م، ومناخ دخنة 1295هـ/ 1873م، ومناخ الحرملية 1309هـ/ 1891م، ومناخ عرجا 1313هـ/ 1895م، ولا تقتصر مشاركة العطفة على حروب القبائل فيما بينها فقط، بل نجد هذه الراية لقبيلتها موازية لبيارق الحاضرة، في حال مشاركتها ضمن الحملات العسكرية للدول، فنجد أن من ضمن القوات المشاركة في الحملة العثمانية ضد جماعة الدروز في جبل السويداء قوات من بعض القبائل العربية في بلاد الشام، وبصحبة كل قبيلة عطفتها. وفي جيش إمارة الكويت شارك العطف مع قبائلهن في معركة الصريف، فوصل عدد العطف المشاِركات ضمن قوة جيش ابن صباح سبع عطفات. وتبدو صورة تلك المشاركات للعطفة واضحة المعالم في التنظيم العسكري عند إمارة آل رشيد، فقد كانت العطفة حاضرة مشاِركة مع عشائر قبيلة شمر التي كانت تعد ألوية عسكرية في التنظيم العسكري لإمارة آل رشيد، وتشكل ثُلُثَي جيش الإمارة. وكان تأثير العطفة واضًحا على تحفيز المقاتلين.
أما عن الأدوار التي تقوم بها عطفة الحرب فتبدأ من لحظة انتخابها وترشيحها من شيخ القبيلة لتكون عَطفة الحرب، عندها تبدأ بتجهيز نفسها لمهمتها، مرتدية أجمل الثياب والحلي من الذهب، ومتزِّينة بأدوات الزينة عندهم، واضعًة على رأسها شالاً بعد أن مشطت شعرها، بعد هذه الطقوس تخرج للجموع الغفيرة معِلنة جاهزيتها ركوَب العطفة، فيسمح لها الشيخ أوالعقيد أو من يُوِكل الشيخ له المهمة بركوب العطفة ثم يُمِسك بخطام الجمل ويسحبه، إلى ميدان التدريبات. ومهمة العطفة في الميدان تكمن في استنهاضِ همم الفرسان، ومطالبتهم بالتقدم للأمام، وفي حالة تراجع الفرسان تِصيح وتنخى وتزغرد مطاِلبة بالدفاع عن شرف القبيلة، والذود عن حياضها، والإقدام للقتال وعدم التراجع.
أوضحت الدراسة مصير مركب العطفة بعد القتال، فقد اتفقت أغلب المصادر على أنه إذا أخفقت القبيلة في الدفاع عن عطفتهاَ واستولى عليها تعاد العمارية، لكنما يترتب على هذا هو فقد القبيلة وحرمانها من الخروج بالعطفة في الحروب، ولا يحق لها أن تضع عطفة أخرى إلا في حالة واحدة، وهي أن تأخذ عطفة قبيلة أخرى، فيحق لها إرجاع عطفتها في المعارك، وهذا العرف هو ما يجعل القبائل تستميت دون العطفة، ولو كلَّف الأمر أن يقتلوا جميعا دونها ولا تُسلَب، وهذا الأمر جعل بعض المصادر من مستشرقين أو عرب يرونه السبب وراء انقراض استخدام العطفة في القرن التاسع عشر الميلادي، إذ لم تَعد هذه العادة تستخدم إلا عند القليل من القبائل، كقبيلة عنزة في الحروب وهذا ما أكدته مشاهدات الرحالة.
وفي الخاتمة ذكر الباحث أنه من خلال استعراض العطفة والعمارية، فهناك ما يدلل وبشكل قاطع على وجود دور حربي بارز قامت به المرأة بجوار الرجل للَذود عن شرف قبيلتها، فلم يقتصر دورها فقط على وجودها في المنزل والقيام بمسؤولياتها ومهامها من تربية الأولاد، والاهتمام بالبيت وشؤونه من طبخ وترتيب ونظافة، بل تعدى الأمر هذه المهام والمسؤوليات الأسرية وتجاوزها لتكون سنداً للرجل في ساعات القتال والشدة، وأن تخرج معه لساحة القتال معرضة نفسها للقتل والأسر، وهي ترمي من وراء ذلك الى تشجيع وتحفيز المقاتلين في ساحة القتال.
وفي الحقيقة أن هذه الدراسة التي اعتمد فيها الشمري -مشكوراً- على مصادر متنوعة لجمع المادة العلمية واستخلاص وتحليل المادة العلمية، سدت حيزاً في المكتبة السعودية، يليق بمقام المرأة السعودية، ويسهم في دعم أبحاث ودراسات دور المرأة. كما أنها مرجعية مهمة جداً لمعرفة أدوار المرأة ومسؤولياتها المتعددة سواءً داخل أوخارج المنزل، ومحفزة للباحثين والباحثات لسبر مثل هذه المواضيع الحيوية التي تعزز هويتنا الثقافية، وتاريخنا المحلي.
** **
د. مريم خلف العتيبي - أستاذ التاريخ السعودي - جامعة الأمير سطام