مشعل الحارثي
ما يثور ويخور ويجور ويدور الآن في أرض السودان الشقيقة من نزاعات وصراعات قادتها لأن تصبح في قبضة الحديد والنار، وفي بؤرة التشظي والتلظي والتردي، وجعلت الآفاق حولها تمور وتضطرب، وساقي الموت يحمحم بالعطب، وبروق الليل تومض باللهب، وكأنما وقف الزمان وعاد التاريخ ليفتح صفحاته من جديد ونعيش أزمة جديدة من تاريخ السودان المثقل بالحروب والانقلابات والانقسامات والحركات الانفصالية، فبعد أن تحقق للسودان استقلاله من نير الاستعمار عام 1956م حتى اندلعت حركة التمرد الأولى التي كانت تسعى لفصل جنوب السودان في الخمسينيات الميلادية (1955 - 1972م) وقادتها حركة (الانيانيا) التي تعني بلغة قبيلة الدينكا (الثعبان الأسود السام) ضد الحكومة السودانية وجيشها النظامي وكانت حصيلتها نصف مليون قتيل من الجانبين وانتهت باتفاق الوحدة والسلام ومنح الجنوب حكماً ذاتياً موسعاً لتندلع الحرب من جديد عام 1983م فيما عرف بحركة نانيا الثانية بقيادة العقيد جون كرنق الذي قام بتشكيل الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان، ثم اندلاع حرب دارفور عام 2003م وما خلفته أيضاً من عشرات الآلاف من القتلى والمشردين وانتهت بتقسيم السودان.
إن كل تلك الحروب المدمرة وماجرته على السودان من ويلات واستنزاف لدمائهم وقواهم ومواردهم البشرية والطبيعية تستوقفنا وتلح علينا لطرح العديد من التساؤلات التي ربما بالإجابة عليها يتضح جزء من الصورة لحقيقة ما يدور في أرض السودان قديماً وحديثاً ونقول:
هل الاستعمار للقارة الإفريقية عموماً بما فيها السودان ولى وانتهى منذ عشرات السنين؟ ولم يعد له أيادٍ وأذرع ومصالح ومطامع خفية؟ أم أن ما يحدث في السودان الآن هو حلقة أخرى من مسلسل العبث السياسي الذي بدأ عرضه مع هبوب رياح الربيع العربي ومحاولة تفكيك الممزق وتمزيق المفكك؟ بل إن ذلك يلح علينا لنعرف ما هو الثمن الحقيقي لكل هذا الخراب والدمار وشتات الأمر في السودان؟ وأين غاب الحوار الذي هو ناموس الديمقراطية كما يقال بين إخواننا السودانيين من قادة الأحزاب وذوي العلم والرأي والحكمة؟ وفي ظل التوقعات المتفائلة لحل هذه الأزمة ترى هل ستنتهي أسباب ودوافع هذا الصراع الأزلي وإلى الأبد؟ ونشهد معه ولادة حقيقية لعملية التحول الديمقراطي؟ وهل أصبح السلام غاية لا تدرك اليوم في عالمنا العربي؟
إن من أولى الحقائق ومنذ اندلاع شرارة هذه الحرب التي يجب أن يعيها كلا الفريقين المتنازعين إنها حرب خاسرة بكل المعاني والمقاييس ليس لجيش السودان وقواته ومقدراته فحسب وإنما لإنسان السودان وأمنه واستقراره وإيقاف لكل مشاريعه التنموية، وما يحاك ضده منذ أمد طويل ليظل دوماً يعيش في أتون القلاقل والفتن والمحن والوهن، وفي شظف من العيش والتخلف والرجعية، وأن هذا الصراع لا يقتصر على السودان فقط وإنما آثاره ستمتد لكل الدول المجاورة.
ومن هنا ومن بلد الحرمين الشريفين كانت المملكة العربية السعودية وقيادتها الكريمة وشعبها الوفي وبما عهد عنه من سبق لنصرة الإخوة والأشقاء العرب من أول الدول التي أعلنت عن ألمها وأسفها العميق لما يحدث للسودان وبادرت لدعوة المتحاربين لنزع شرارة فتيل الحرب بين رفقاء السلاح، ونادت بأهمية تطويق هذا النزاع بالتحرك الدبلوماسي السريع والحيلولة دون تفاقم هذه الأزمة حتى لا تكون مصدراً آخر من مصادر التوتر وبؤر عدم الاستقرار في المنطقة، والحرص التام على سيادة السودان ووحدته وسلامة شعبه وأراضيه، وتفويت الفرصة على الطامعين والمتربصين من استغلال هذه الفرصة لتحقيق مطامعهم الخبيثة، وعقدت أول اجتماع لهم بجدة.
بل إن المملكة بذلت ولازالت تبذل كل مساعيها الحميدة والتوسط لدى الفرقاء لإيقاف هذا الصراع وكبح تداعياته، وكانت من أوائل الدول التي ساهمت في إجلاء رعاياها وعدد من الدبلوماسيين والمسؤولين والآلاف من رعايا الدول الشقيقة والصديقة حفاظاً على سلامة أرواحهم، وقد شهد العالم ببراعة القوات السعودية في هذه المبادرة الإنسانية الرائعة، بل كانت من أول المبادرين لتقديم الإعانات والمساعدات الإنسانية لشعب السودان وتنظيم حملة شعبية سعودية لجمع التبرعات للتخفيف من آثار هذه الأزمة ومساعدة المتضررين والمحتاجين نتيجة للأوضاع الراهنة.
فتحية لأرض السودان التي ارتوت بدماء الرجال الأحرار الذين صارعوا الحياة وذاقوا الويلات من أجل الحفاظ على مكتسباته ورفعة شعبه العربي الأبي، ونرحب بصبره وجلده وكل ما أصابه من أزمات ونكبات وكما رحب به من قبل شاعرنا الدكتور عبدالله باشراحيل عندما قال:
هذا سنا النيلين في الأزمان
يستقبل الآمال في السودان
بلد الكرامة والكرام وأصلهم
من نسل عدنان ومن قحطان
أهلي هنا أهل الشهامة والتقى
وطني هنا من سالف الأزمان
من اشعلوا التاريخ حتى أشرقت
شمس الفضائل في دجى الأوطان
من أرض مكة والسلام يطيفها
صار الهوى في قلبها سوداني
حييت من وطن وشعب شامخ
إن الشعوب تعز بالشجعان
وبعيداً عن معطيات كل السيناريوهات المحتملة لنتائج هذا الصراع فإننا نأمل أن يخرج السودان من هذا المأزق سريعاً وبأقل الخسائرالممكنة، وأن ينصت المتحاربون فيه لصوت العقل والحكمة، وندعوهم لاسترداد الأنفاس، ومراجعة الأوضاع والسماح لتضافر كل الجهود لحل هذه الأزمة، وتفعيل الدور الإنساني للهيئات الإنسانية لممارسة دورها المنشود، كما نناشد أبناء وشعب السودان الغيورين على وطنهم أن يقفوا صفاً واحداً وراء الحق، ويكونوا سنداً وسداً منيعاً لردع كل غاشم ومغرور أو مغرر به يريد أن يفتت وحدتهم ويشتت شملهم ويستولي على مقدراتهم حتى لا يأتي اليوم الذي تحدهم فيه توابيت اليأس والأسى والضياع ويتحقق فيهم قول الشاعر:
وصار قومي بلا بدر كأنهم
يمشون في الدرب والظلماء تطويه
يسوقهم كل من غابت بصيرته
وضاق ذرعاً بصوت من محبيه
حفظ الله السودان أرضاً وشعباً، وكان الله في عونهم ونصيراً لهم لتجاوز هذه الأزمة وتتحقق لهم كل رغابتهم بوطن آمن مستقر، وستظل قلوبنا هنا في أرض السعودية معهم وندعو لهم ونردد معهم كلنا السودان والسوداني أنا.