الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من السخرية التي تنبع من احتقار الآخرين، ونهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة.
وقد انتشرت في بعض المجالس، وفي مواقع التواصل الاجتماعي السخرية من الناس بالتهكم عليهم في أحاديثهم، وفي مأكلهم ومشربهم وملبسهم، وحتى السخرية من الناس بالإشارة دون اللسان، وكذلك عن طريق الضحك، وتلك السلوكيات والتصرفات السيئة المشينة على الرغم من تحريمها إلا أن البعض يتساهل بها.
«الجزيرة» ناقشت مخاطر انتشارها في المجتمعات، مع مُتَخصِّصَيْنِ في العلوم الشرعية والاجتماعية؛ فماذا قالا؟
أعظم بلاء
يؤكد الشيخ عبدالله بن سليمان اللحيدان المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية سابقاً: أن داء السخرية إنما ينمو ويتكاثر لوجود أمراض نفسية وقلبية قد أصيب بها الساخر مما جعلته ينظر للأمور بعين السخرية، إما لغرور يترفع به عمن هم دونه مظهراً وهو متوعد على ذلك بالويل كما قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(4)} (الهمزة: 1-4)، وإما لحسد يحسد به غيره ممن لا يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه، وهذا النوع نجده يصدر من أصحاب المعاصي تجاه أصحاب الطاعات، ولذا أخبر الله تعالى عن مآل مَنْ هذه حالهم كيف سيكون يوم القيامة في قوله: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (الزمر: آية 56)، قد كانوا إنما سخروا من أمر الله وبعباده الصالحين وأنبيائهم المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- كما قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} (الأنبياء: آية 41) (الأنعام:10)، وهم وهذا من أعظم وأشد ما يقع الناس به من بلاء السخرية، السخرية بالعلماء الربانيين، وأهل الصلاح والمصلحين كما قال –تعالى– عن حالهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ(111)} (المؤمنون: آية 106، 111)، وفي هذه الآيات عزاء للمسخور منه، وأن الله سيأخذ له حقه وما عليه إلا الصبر، فهو موعود على ذلك بالفوز.
حقد دفين
ويشير اللحيدان إلى أنه قد تكون السخرية ناتجة عن حقد دفين من الساخر للمسخور، وهذه تتطلب معالجة إيمانية لردعها وكف أذاها ليسلم قلب الساخر من الضغينة والحقد التي أعمته فركب معهما مركب السخرية من دون تروٍّ حتى ظلم ولقد وقع من هذا على الدعاة الشيء الكثير، وإن كانوا موعودين بالظفر إلا أن الحذر من الوقوع بشراك السخرية الحاقدة على الدين وأهله أمر يجب التنبه له والاحتراس الساخر منه من جهةٍ، والصبر على أذاه من جهة المسخور منه. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(6)} (لقمان: آية 6)، فهذا تهديد ووعيد للساخر بشيء من شرع الله، والدعاة إليه، وهناك عزاء وتسلية للمسخور منهم، وهو في ذات الوقت تخويف للساخر بأن العافية للمتقين فليكن منهم ما دام في الأمر سعة.
قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(32)} (الرعد: آية 32)، فلربما يعيش المستهزئ طويلاً وعلى حال ظاهرها أنه أفضل من حال المستهزأ به من باب الإملاء فحسب، ثم يأخذه الله بعقاب لم يحدد كنهه وزمنه لتتوقع أعظمه وأفظعه وأقساه وكل بحسب ما اقترفت يداه من سخرية وهمز ولمز وتنابز عافانا الله وإياكم من السوء.
ومن هنا وجب على المسلمين الحذر من الاتصاف بهذا الخلق الذميم وتجنب مزالقه الخطيرة، ولا يقولن أحد إنه إنما كان يمزح، فلربما كان هلاكه في مزاحه، ولقد وصف الله من سخروا بكلام كانوا قد قالوه على الرسول -صلى الله عليه وسلم - وصحابته مدعين أنه من كلام المجالس فحسب، ولكن الله أخذهم عليه أشد المؤاخذة حين قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة: آية 65، 66).
أسوأ الخصال
ويؤكد الدكتور خالد بن عبدالقادر الحارثي المستشار الاجتماعي على أهمية اختيار هذا الموضوع الهام الذي غالباً ما يكون سببًا في توغل النفوس والفرقة بين نسيج المجتمع، فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (الحجرات: 11).
فإذا رأيت رجلاً مبتلًى فلا تسخر وتتهكم.. فقط أحمد اللهَ على العافية، وأسأل الله أن يعافيه بدلاً من أن تسخَر منه فيعافيه الله ويبتليك، وكما قيل: «لا تسخر من أخيك، فيعافيه اللهُ ويبتليك».
وللأسف ما يدفع على السُّخْرِية واحتقار الناس إنما هو الكبرُ وهو من أسوأ خصال الشر، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: (الكِبْر بطرُ الحقَِّ وغمطُ الناس)، وقال: (لا يدخل الجَنَّةَ من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْر)، وكان عيسى عليه السلام يقول: «لا تنظروا إلى عيوبِ الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبِكم كالعبيد، إن الرَّجل يبصر القَذاةَ في عين أخيه، ولا يبصر الجِذع في عينَيه، وإنما الناس رجلان: معافًى ومبتلًى؛ فاحمدوا الله على العافية، وارحموا المبتلى».
فينصح بالتظاهر في كيفية مواجهة السخرية والتهكم بالهدوء إذا سخر منك أحدهم لأى سبب كان سواء كان وزنك أو طولك أو أي شيء آخر فلا تغضب أو تظهر أي ردة فعل تجاه الأمر وتذكر أن هذا ما يريده، هو يريدك أن تشعر بالسوء تجاه نفسك لذلك كلما أظهرت ردة فعل عنيفة وقوية كلما بدوت ضعيفاً متذبذباً، وتمنحه فرصة التمادي في السخرية منك، لذا سر في طريقك ولا تُعرّه أي اهتمام وكأنك لا تراه، وتذكر أن كل شخص لديه عيب ما، فلا يوجد شخص كامل أبداً مهما حاول أن يظهر خلاف ذلك، فكل شخص لديه نقطة ضعف، وكونه أحسن إخفاءها هذا لا يعنى أنها غير موجودة، ففي الغالب الشخص الذي اعتاد على السخرية من الآخرين يكون ضعيف الثقة بالنفس لأنه يخاف دائماً من عيوبه ويخاف أن يفتضح أمره أمام الآخرين فيكون هو محط السخرية لذا يسعى دائماً للتقليل من شأنهم بمضايقتهم في ذكر نقصهم ليشعر بالرضا عن نفسه الساخرة هداه الله.