عبدالمحسن بن علي المطلق
بأسطر تنوف على العشرين جُمع بها أو في طيّها سيرة المتنبي، المجملة لمن تمحّصها بطموحه.. الذي قال عنه:
يَقُولونَ لى: ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ!
وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمى
ما لا نعجب، فهو الذي غالب شعره اعتداد بالذات وإباء وبحث دائم عن المعالي، وفخر (متزايد) بنفسه، حتى أغرق عددا من الدارسين المحدثين- كما ذكر بعض من جال في تلكم- إلى أن شعور المتنبي بذاته لا يمكن إلا أن يجعله سليل أسرة «علوية» متنفذة..
ومن ها هنا نجد مطلبه (الولاية) لم يتوقّف، أو قد يخمد، عدا أحايين، كما كان منه في البلاط الحمداني، ولأن أقسم أي مطالع متروّ لديوانه لن يحنث في ازجائك عنه تلكم بتلك الأمنية وأنها غاية مرامية.
المهم أن تلكم المادة في عدد الجزيرة (الثقافية) 762، مطلع عيد الفطر/ 1444هـ.
قد أتت على كل تلك السيرة بإيجاز.. يحتاج سردها لكتابٍ أو ربما سفرٍ، وبمناسبة الإيجاز فلا بد من مثال ماثل يتصوّر به القارئ ما يروي غليل مطلبه، ويشبع ملكته..
(قالوا: مدح الأصمعى امرأة لإنشادها شعرا حسنا، فقرأت له آية
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص.
ثم تممت: (أبعد هذه الآية فصاحة! لقد اشتملت على أمرين هما (أَرْضِعِيهِ) (فَأَلْقِيهِ) ونهيين هما (لاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني) وخبرين (إِنا رَآدوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين) وبشارتين من ضمن الخبرين هما: الرد والجعل المذكوران ..)، وقد صُدّرت الآية -بالمناسبة- بـ(أوحينا..).
تنبيها أن «الوحى إلى أم موسى، يجوز أن يكون عن طريق الإلهام، كما فى قوله - تعالى -: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» أو عن طريق المنام، أو عن طريق إرسال ملك أخبرها بذلك»، قال الألوسى: والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك، ولا ينافى ذلك الإجماع على عدم نبوتها، لأن الملائكة - عليهم السلام - قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم..
هنا لا عجب إن أوقفت الإبداع بالإيجاز الذي لا يؤتاه كل أحد، فهو فضل أماءة له آية عن الـ(..حظّ عظيم)..
فأبو الطيب -الشاعر- وكفى، كما أن في الإيجاز عنه هي مزيّة يحمد من استطاع إليها سبيلا، وللعلم كذا قيل عن السهل الممتنع وبالتالي يبقى كما خلد في أتون عطائنا الأدبي شعر صاحبنا على مدى قرون بدأت منذ بشائر إشراقها عندما حلّق بالشعر.. لا بعيد مولده، وتحديداً أن نضجت جدّا ملكته الشعرية لتسيطر على ذلك الميدان وأحسبها إلى يومنا، بل لولا مخافة أن أرمى بعاطفة.. لجزمت بالقول -لا بالحكم- أنه (يغرّد وحيدا) أو بلا مُنازع «1» على كنن الشِّعر.
فالدكتور حسن ظاظا -رحمه الله- أملى «إن العرب لديهم استعداد أن يجابهوا أي أُمّة تفضّل شاعرهم على عمّنا المتنبي..»
فـ«أبو الطيب» لم يكن شاعرا فحسب!
بل طيّب قريضه الذائقة.. التي جعلت غالب من ليس له في الشّعر هوى يلوي عنقا إلى ذاك فيجول في عطائه وحكمه على وجهٍ أخصّ، كفى أنها تُستحضر بكل مناسبة تعنّ ، وأقربها: إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ..
فإن حِكمهُ تتداول بكل ظرف زماني كان أو مكاني.. ما مكّن (فارس الكلمة)»2» لذاك الإنشاء الباسق ومدّه من غزير معاني ساحت زمان الدنيا شرقا ومُغرّبا لتصل مدى الاناء، فقد رحل وبقي شعره..كأن المرام من ذلكم حدث، فها الناس قاطبة تشعر به تستنجده بالملمات ليخفف عنها، وسل من صاله من دنياه مكروب، أو سال لُعابه في نيل مرغوب..
فما يفعله بالمحزون من طرب أقصد تسلّي وتخفيف أو تطفيف على وجه أقلّ لتقلل من ثقل ما يحلّ به، وهذه الأخيرة حسنةً من صنيع إنشائه تُحسب له، ولعلها هي أدعى سببا لذاك الخلود..
رحل يومئذ كأي منّا.. يعيش على البسيطة ما شاء له الله من عمرٍ ماديّ ثم يغادر وِفق «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ»، فلا خُلدٌ بها لكن الخُلد الذي يمكن أن يطال هو المعنوي ما قد
والذي لكلّ أن يَناله ممن بذلٍ فأبقى تأثيرا ، والعمق الذي يستطيع (صاحبه) أن يكوّن - تشديد الواو- ذاته في شأن ينصفه الناس من خلاله، اتفقوا معه أم اختلفوا، لكن على وجه أخصّ ما يُحمد له، على نحو ما.. س/ يسهر الخلق جرّاه.. ويختصموا!
وقبل أن يغادر بناني وريقاته، أُثبت جملة علقتني حيال المتنبي ومناسبة العيد.. هي للدكتور حسن الهويمل حفظه الله..
(أحرق المتنبي أوراق المتفائلين..) ويقصد ببيت «عيد بأي حال عُدت يا عيد»!؟
ولعل من لوافح عصرنا نطالع لنزار وكان في غربةٍ زمان.. وربما مكان معا:
يا {عيد} عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا
واستوطن أرض أغراب وأشباحُ
ياعيد ماتت أزاهير الرُّبى كمداً
وأوُصِدَ الباب ما للباب مفتاح
عاطفا بعد لشاهدي/
وطيّه شكرا جزيرتنا -الصحافية- بالأخصّ ثقافيتنا - منها-.. التي إلا ولها دافع لأملي هذه الأسطر، ومحبّرا عما تألّقت به في جماع سيرة الشاعر تحت بيت قد يكون عنوان غالب من يتعيّد والأحزان تُشاطر ظرفية ما يمرّ به، لمرارة ما حاكت ومحضر -ظرفيّة- العيد، ولا عجب.. فالداعي مستدعي!، فمما قيل:
(إن الحديث إذا لم يكن له داع فإنه يأتي ثقيلا والتكلّف فيه بادٍ).. لكن بالتأكيد إن كان خلفه أسباب تجد السليقة تعلوه، والمعطيات التي ترفد تجعله هي الأخرى يتدفّق، هذا عدا أن السلاسة إلا وللعين باديةً.
قبل الختم:
أفيض بكلمة هي (.. غير هامشية):
بعضهم يقول لك هذا الكاتب هو أفضل كاتب، أو هذه المقالة لا أحسن منها وبعضهم تجد يضع بين يدي اختياراته كلمات رنّانة عساه يغريك لا أن تقرأ فقط، بل تتفق معه على ما يحكم به أقصد ما يقول به!
ببساطة لمّح بلا تجريح (إن هذا.. بالنسبة لك! - أو مدى مبلغك من العلم-، لكن لا يلزمني حكمك البتة!
**__**__**__**
1)كثيرون قرّبوا لهذا للسهل الممتنع، ولعله مجموع بقولهم (من يقرأه يظن أنه يستطيع أن يحاكيه).. وذاك منه بعيد.
2) فهذه الجملة التي ارتأيتها يوم أخرجت كتيب عن هذا الشاعر المُبدع المصقع..
وقد حاولت فيه جمعا لمشاهير حِكمه.. لأُعلّق عليها..