د.حسن مشهور
يشكِّل الانطباع الأول دورًا في تشكيل الفهم الذاتي لدى الفرد، بغض النظر عن هذا الانطباع سواء أكان إيجابياً أو على النقيض. يحضرني من ذلك الحسين بن عبدالله الملقب بالشيخ الرئيس وأعني به العالم المسلم الفارسي الأصل ابن سينا. فالرجل إذا أتي على سيرته في مجلس ما، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الطب وكتابه الشهير «القانون» في الطب. في حين أنه قد برع في علوم أخرى بقدر براعته في الطب، هذا إن لم يكن أكثر. فهو قد اشتغل بالفكر وتناول العديد من القضايا الفلسفية، وأذكر -رغم شهرتي بضعف ذاكرتي- بأني قد قرأت له ذات يوم تعريفًا للشعر، بز فيه أقرانه وتميز حقيقةً في طرحه وتناوله لمفهوم الشعر.
ولا تزال قصيدته الشهيرة باسم «العينية» في النفس تشير الكثير من اللغط لدى المهتمين بفلسفة ما وراء الطبيعة، والتي تعد النفس الإنسانية ومجمل ما يرتبط بتعالق الروح مع البدن أحد مواضيعها الجدلية، والتي يقول في بعض أبياتها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك، وربما
كرهت فراقك، وهي ذات تفجع
أنفت وما أنست، فلما واصلت
ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأذكر أني قد تناولت في كتابي «الميتافيزيقيا الشعرية»، جانب من القضايا الفلسفية الميتافيزيقية وانعكاساتها الشعرية على أعمال رموز أدبية أمثال محمود درويش وإيليا أبو ماضي، والشاعر الصوفي السوداني عبدالرحيم البرعي، فكانت قضايا أمثال الموت وما بعد الرحيل الدنيوي وعلاقة الجسد والروح هي أبرز ما تناولته هذه الفلسفة.
أجد كذلك إن فكرة الانطباع المعرفي الأول تتكرر في حالة أدبية أخرى، لكنها هذه المرة تقع في مصر الحبيبة الغالية على قلب كل عربي. فجميعنا يذكر الأديب الراحل يحي حقي، فالرجل إن أتت سيرته على أي مثقف فإنه سيسارع بتوصيفه بأن أحد رموز القصة القصيرة وأبرز روادها في العالم العربي. وبأن قصته الشهيرة «قنديل أم هاشم»، التي بالمناسبة قد تم تحويلها إلى عمل سينمائي قام ببطولته الفنان المصري الراحل شكري سرحان، هي واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي تندرج تحت مظلة الواقعية الأدبية في تاريخ فن السرديات العربي على امتداديته التاريخية.
في حين أن الراحل يحي حقي قد كتب وبشكل عميق ودقيق في فن النقد وليس الأدبي منه ولكن تناول بالنقد مختلف الفنون الأدبية منها والفنون الجميلة أيضًا، وكانت كتاباته فيه من أجود النتاجات الكتابية العربية في هذا الحقل المعرفي المعقد إلى حد بعيد. واذكر بأن مؤلفه النقدي «في محراب الفن»، لا يزال يشكل دليل لمن أراد أن يدلج إلى مغاليق الفن التشكيلي، والموسيقى وخاصة فن الأوبرا بكل رقيه وتفرده.
ونفس الحال نجده لدى الآخر، ولكن من زوايا أخرى تتغير فيها قواعد اللعبة الانطباعية الأولية. من ذلك أننا نعي جيدًا بأن الفرنسي الراحل سان جون بيرس، يعد واحدًا من أساطين الشعر العالمي، وبأنه أحد من منح جائزة نوبل في الأدب عن رائعته وملحمته الشعرية الخالدة «آناباز»، التي ترجمت بعضًا منها في كتابي «تراتيل العودة»، وترجمها كاملة الشاعر والناقد السوري علي أحمد سعيد الشهير بلقب أدونيس. في حين إن ما لا نعطيه كثير بال، إن شهرة بيرس في فرنسا والعديد من الدول التي عمل فيها، هي باعتباره دبلوماسيًا رفيعًا ومن الطراز الأول. حيث كانت لجهوده الدبلوماسية لدى الدول التي عمل بها الأثر الإيجابي الفعال في تعزيز السياسة الفرنسية الخارجية والدور الفرنسي لدى دول أوروبا وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
ويتكرر الأمر في حالة أخرى، ولكنه هذه المرة في إنجلترا، فنحن إذ ما أردنا أن نشير بالبنان لشاعر إنجليزي استثنائي حصل على جائزة نوبل في الأدب في العام 1923م، وكانت قصائده بمثابة إنذار للعالم عن احتمالية نشوب حرب عالمية ثانية، وهو الأمر الذي كان، فسرعان ما سيسُتدعى إلى الذاكرة الشاعر الشهير ويليام بتلر ييتس، وتحديدًا رائعته الشعرية المتفردة التي أسميتها « العودة المرتقبة»، التي تنبأ فيها عن قيام حرب عالمية ثانية، عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد ترجمتها ونشرتها في صحيفتنا العامرة هذه.
إلا إن الشعب الإنجليزي في عموم بريطانيا، يعرفون وليام بتلر ييتس باعتباره أحد رموز السياسة في إنجلترا، وعضو مجلس العموم البريطاني الذي يشار إليه بالبنان. والأمثلة كثيرة، لكن من خلال استعراض ما ورد في المقالة آنفًا، يتبين لنا بأن ما تكرسه لنا اتجاهاتنا وميولنا في جوانب معرفية أو وجدانية أو حتى مهارية بعينها، هي ما نستبطنه في ذواتنا ونسعى جاهدين لتصديره ليس إلى الآخرين فقط، وإنما إلى العالم أيضًا إن أمكن، باعتباره الحقيقة المطلقة في حين نغفل عن جوانب أخرى قد تشكل هي الأخرى حقيقةً تطوح بما نعتقده وتلقي به في مهب الريح؟