د. شاهر النهاري
كثيرون يعتقدون أنه لا فارق بين الاثنين، وحتى أن بعض الصحف والدوريات تخلط بينهما، فصفحة الرأي أو الاستطلاع الصحفي مختلفة في عدد كبير من الزوايا عن صفحة المقالات!
وبالعودة لأساس الفكرة، فكونك كاتبا تريد أن تكتب مقالا تبين فيه عن رأيك، يختلف كليا أن تطلب إحدى الجهات الصحفية رأيك، كما نشاهد في الاستبيان الصحفي، الذي يتشارك فيه عدد من الأقلام حول قضية مطروحة للنقاش.
إعطاء الرأي في استطلاع صحفي يختلف أساسيا عمن يمتلك زاوية منفردة، يكتب فيها آراءه بمختلف مسبباتها ومستوياتها وتنوعها.
في مسألة الرأي أنت محدود بسؤال معين، والإجابة عنه غالبا تكون محدودة الزوايا قصيرة مركزة، مثل سهم يوجه لتفاحة، لا ينبغي له أن ينعطف في الهواء ويصطاد فراشة أو بومة.
بينما في المقال، أنت تمتلك القوس والمساحة والتلاعب بالريشة وتحجيم أو توسيع وتر البدء، واختيار مسارات ومنحنيات الكلمات، ويمكنك جعل الفحوى في العنوان أو صدر البداية، وربما تبسطها في المنتصف، أو أن تؤجلها لدهشة النهاية حتى لا تحرق فحوى المقال، مع الثقة بامتلاك كامل حرية الطرح، واستخدام أدوات وصور الثقافة والبديع، وتوظيف الإشارات إلى المراجع أو المقولات والأمثال المؤدية لعمق الغرض، وبما يفعله منطوق رجل الدفاع العام أو المحامي، حين يسوق أسس مرافعته عن رأيه مستخدما الصدمة أو الربط، وأن يتفنن في رص حججه بكل الوسائل الممكنة، والتي قد لا تكون مباشرة، وقد تحتوي قدرة التمرير والتحايل والتضخيم، وتقليل الضرر، بطرقه المعتادة في الأداء وبخبرة في أصول القانون وفنون الصياغة، والاستعارات، والتوضيح والتكرار، واستخدام الحلى اللفظية، والبديع، وغيرها من أدوات الكتابة، وربما يتعمد التعتيم أو التشويق، ليجعل القارئ مستفزا بما يقرأ، وهو يحاول الإلمام بكامل الصور، فكأنه يقرأ قصيدة ذات مغاز ومعان ووجوه مختلفة مدمجة، متناسقة مع إمكانية النشر، وبخبرته بما سيتعرض له المقال من مراجعة، ومحاسبة عند تضمينه لمعاني لا تجيزها الجهة الناشرة، مع أن الكاتب المتمكن الخبير، يستطيع جعل كلماته كومة من الصوف، المغرق بالزيت، لا تستطيع الاحتجاج على كرويته، ولا تفصيص خيوطه بسهولة.
مجرد الرأي يمكن أن يطلب من الصغير والكبير، العميق والسطحي، وكل منهم سيجيب بكلمات تناسب الرد وكينونته، ومهما سادتها البداءة إلا أن المحصلة تعتمد على الفهم وقدرة السائل والمسؤول، وهي قابلة للتصحيح والزيادة والنقص.
ولكن المقال هبة وهواية وصنعة، وفن، وتمكن، وتبحر، وقناعة بما يقال وكيف يقال، وحساب وحيطة في حال تم انتقاده، فيعود للتوضيح، بمقالات تتبع، بينما يكون الرأي غالبا منقطع السر لا مراجعة فيه، ولا عودة.
الرأي برعم زهرة ينبثق من بذرة السؤال، والسؤال يعتمد على وضوحه، ومدلوله، والمتوقع منه، بحيث لا يتمكن من يدلي برأيه الخروج عن مسار الرد، وربما بحذر، أو ببعض تهور، وبمعرفة أو جهل مطبق، ما يجعل الآراء نماذج ووجوها قابلة للإعجاب أو التعجب، أو الرفض من قبل القارئ، أو المستمع، ودون القدرة على الغوص أكثر فيما قيل، وربما بتحميل الرأي فوق سرج التسرع، أو الضحك، أو عدم فهم المقصود، أو التعلل بالمفاجأة.
ولكن المقال يظل قيمة بعيدة عن الارتجال، ومن لا يدرك أو يجهل أو يتسرع أو يبالغ قد يفقد منبرا زاول من خلاله كتابة المقالات.
الرأي قد يأتي من متخصص، وقد يأتي من عابر سبيل، ولكن المقال لا يأتي إلا من عارف مُطلع، سواء كتب المقالة الأدبية المعتمدة على آرائه وعواطفه ومعتقداته، أو المقالة العلمية، التي يلتزم فيها بالموضوعية والقياسات والمراجع والمنطق.
إبداء الرأي المحدد المسار قد تكون صيغته محفوظة معتادة مكررة، باستخدام نفس ديباجات المقدمة والألفاظ المتعارف على استخدامها في أغلب ما يشابهها من اللزمات والردود، بينما يكون المقال عالم استعراض فنيا وقدرة وتمكنا وتعمقا وسحرا، واستخدام البديع اللفظي، لمعرفة الكاتب أن مقالته خطوة على سلمه، إما أن ترفعه معها راقصا لدرجة أعلى، أو أن تتسبب له في انزلاق ركبة وكاحل بيانه، تعطله وتؤلمه، وتحدد حركته لفترة طويلة، وربما تكسر حوض طموحه وفقرات فكره.
الرأي غالبا يسبب الجدل، والقبول أو الرفض، وخصوصا إذا أتى من معلوم، بينما يمر مرور الكرام إذا أتى من مجهول، ولكن مواقع التواصل أحيت بيننا روح رأي سريع، وضخمته، سواء طُلب الرأي من روادها، أو لم يُطلب، وأي مغرد يستطيع التطفل، وصياغة رده بكيفية ذاته وخفائه، وحتى لو كان غير مفهوم، أو كثرت به الهفوات الإملائية، والتركيبية، والمنطقية، وربما يعجب بتغريده الكثير، ممن يجدون هواهم ودهشتهم فيه، سواء بالتأييد أو الرفض، وربما بمنتهى السخرية، أو التحقير وتحوير المضمون والنوايا والدوافع، حتى ولو عاد وغرد بثريد من التبريرات.
بينما يظل المقال مع التقنية حالة كينونة عزيز قوم ذل، وكم يتبلور كتلة حزن منسية ممتنعة، فلا يقدرها ولا يمسها إلا من لهم الخاطر والكبد والتمعن ليبحروا مع كاتبها بعمق أجزائها وإشاراتها وأجوائها، وهم قلة.
ويأتي بعض القليل قافزا على الجُمل بما يسمى بالقراءة الفوتوغرافية لسبر المحتوى، من أوائل مفاتيح الفقرات، ودون تلذذ أو اعتبار لفنيات الصياغة، وربما يعاني الغصة بعد رؤية العنوان.
ويظل أغلبية الجيل الجديد ينظرون شزرا للمقال الطويل، وهم يتحاشون لمس جدرانه، ولا يفكرون بفرز مكوناته، التي كانت عادة لأجيال الطيبين يكرهها أهل اليوم غالبا، ويمر عليها الكبار بنوع من الترحم على الماضي.
عوالم الرأي في مواقع التواصل أصبحت حمى وسلسا فكريا مهلكا، قاتلا للطموح، مهينا للعقول، يرفع قائلها بتبجيل أو غرابة أو نشاز التغريد يوما، وربما تعيده للحضيض في الغد بسبب رأي أحمق يسكبه من خرطوم مياه ملوثة، لمجرد عطشه للبريق، وأمنيته بالحصول على مردود التفاعل، وكم من التغريد ما هو منحول، ويظل يستحث إعجاب الغافلين.
لنا الله، ففي التقنية ظلم للمقالة بتحويلها لمجرد رأي مثل غيرها من الآراء، بل إنه رأي ثقيل، فلا عجب أن تضمر فيها أطراف المقالة الفكرية الجميلة الإبداعية الرزينة، وتنزوي هيبتها بدمعة حبر بين الأوراق، ويصبح قراؤها «دقة قديمة»، وينظر لها الجيل الجديد من بعيد تعجبا، وطلبا لصبر أيوب.