حامد أحمد الشريف
مدّت لهم بُسُطَ الراحة أعوام (كذا) عديدة، عندما فرشت بِساطها تكالب عليه القوم!
ماذا تكتبين يا بنت الريف؟!!
أشعر بجمال خفيٍّ في ما كتبتِ، وبعمقٍ مثرٍ، ودهشة في نهايته! لكنّني - أُصدقك القول - لم أفهمه! حاولت جاهدًا ولم أستطع الوصول إلى فهمٍ مقنعٍ يجعلني أجزم به وأتمترس حوله. لست متيقِّنًا إن كنتِ تختبرين ذكاءنا، من خلال زرعك شواهدَ معيّنة تحتاج إلى التمحيص والتدقيق لاكتشافها، وفهم مغزى الحكاية وعمقها من خلالها، أو أنّ ما سطرتِيه بالفعل لا يُفهم! أم لعلّك كتبتيه في غفلة من عقلك، فدوّنه قلبك الموجَع ومضى، وتركك في حيرة مثلنا تمامًا؟!
أكثر ما استفزّني واستبقاني بجوار النصّ، أنّ الحكاية المسرودة تبدو لوهلةٍ بسيطةً ومفهومة؛ فمفرداتها كلّها متداوَلة وليست مستعصية على الفهم. ولو نظرنا إلى النصّ كاملًا من منظارٍ سطحيّ، سنجده مستساغًا، يسهل الحديث عنه لمن ينشغل بالقشور عن الجوهر. لكنّ النصوص القصصيّة الإبداعيّة - كما تعلمين - لا تُكتب هكذا، فالقشرة السطحيّة إنّما الغاية منها تمرير النصّ وإيصاله إلى الشريحة الأكبر التي لا تريد من النصوص غير ذلك، أو تلك التي تُنكر على النصوص دسامتها ومتانتها، حتّى لا يجهدها فهمُها؛ أو لنقل، لا تكثرت بالمعاني والرسائل المضمّخة، ولا تهتمّ لأمرها، ويكفيها من النصوص جمال مظهرها.
نفعل ذلك - بالطبع - بغية تحييد هذه الفئة واتقاءً لشرّها، إذ غالبًا ما تهاجم هذه الفئة النصوص التي تتطلّب جهدًا لاكتشاف قيمتها، حتّى لا يُفتضح عجزُها وبلادتها. وللحقّ، ينبغي القول: إنّ أغلفة النصوص المتاحة للجميع لا تعني هذه الفئة الكسولة وحدها، بل يبحث عنها كلّ النقّاد والمتلقّين الجيّدين، إذ إنّهم جميعهم يشترطون المستويات المتعدّدة للنصوص، ويريدون أن يكون المستوى الأوّل الظاهر للجميع مقروءًا ومفهومًا، لا يعجز عنه أيّ قارئ مهما كانت أدواته - أكان ذلك في القصّة القصيرة أو في عموم السرد - ويُنكرون على من يدمج مستويات الفهم المتفاوتة في مستوًى واحد، بغضّ النظر إن كان في دمجها ما يجعلها مشرّعة يستوعبها الجميع، أو مطلسمة لا يفهمها حتّى صاحبها؛ ولا أظنّكِ إلّا وتعلمين ذلك جيّدًا، وهو ما يشي به نصّك ومداد قلمك الجميل الذي يكشف الكثير من الأسرار، وما يعلمه متذوّقو القصّة القصيرة ونقّادُها المتمكّنون، الذين لا يقبلون النصوص إن لم يكن لها مظهر برّاق وجوهر ثمين، حتّى إنّ بعضهم لايعترف بها من دون هذين الشرطين المهمّين؛ وهذا ما يشكِّل نقطة خلاف مشتعلة بين الدهماء من القرّاء وصفوة المتلقّين النخبويّين الذين لا يزنون القصّة إن لم تستطع الجمع بين السطحيّة غير المفرطة والعمق الإبداعيّ الذي يترك شواهد حيّة تشير إليه؛ وهو ما أعجزني بالفعل في نصّك. فالقراءة الحقيقيّة لا تُبنى على ظاهر النصّ مهما كان جميلًا ولغته الأدبيّة برّاقة، إن لم يكن مستوفيًا لكلّ اشتراطات القصّة القصيرة بأنواعها.
أنا أعي ذلك تمامًا، ولو اقتصر النصّ على ظاهره المثير والمشوّق فقط، لما توقّفت عنده، ولبحثت لي عن أيّ نصٍّ آخر أستمتع بقراءته والكتابة عنه. ولكنّني أشعر أنّ النصّ يحمل مضامين عميقة ورسالة خفيّة، وإن استعصت عليّ ولم أستطع فهمها، وكان ذلك يستثيرني ويدفعي أكثر للمثابرة والتجلُّد والإصرار. وكنت كلّما هممت بالكتابة والحديث عن هذه المعاني التي تتراءى لي أحيانًا، تضيع منّي الكلمات، وتتبدّد المعاني، وأصبح كمن يطارد سرابًا، فأشعر وكأنّني فهمتها لثوانٍ ثمّ ضاع منّي فهمها ولم أعد أعي شيئًا منها! لعلّي وأنا أثرثر الآن وأستطرد على هذا النحو المزعج، يعود لي فهمي فأكتبه...
مهلاً، يبدو أنّه قد عاد الآن بالفعل... نعم، أظنّ الراوي العليم كان يتحدّث عن... أوه لقد ضاع الفهم منّي مرة أخرى... أخشى أنّني لن أكتب شيئًا عن هذه القصّة العجيبة، فالأشياء إذا تكرّر ضياعُها يُقال إنّها قد لا تعود مطلقًا، أو أنّها تكون شؤمًا على صاحبها، والأفضل التخلّي عنها... أتمنّى ألا تكون هذه المقولة صحيحة فيجفّ مداد قلمي وأتوقّف عن الكتابة نهائيًّا، وأن يكون في عودة فهمي مرّة أخرى ما يكذّبها، ويكون حدسي هذه المرّة في مكانه، فأقف على عمق الحكاية ومغازيها الدفينة التي لا يعقل أنّ القصّة دوِّنت بدونها، وإن كان أخشى ما أخشاه ألّا يصدّقني أحد وأنا أقاسمهم بأنّني كنت في لحظة أفهمها جيّدًا، وكدت أدوِّن فهمي وقد ارتسمت البسمة على شفتيّ، لولا أنّ هذه المعاني أخذت تتلاعب بي، تحضر وتغيب، كفتاة لعوب تستمتع بإغراء كلّ معجبٍ بها، وتبتعد كلّما اقترب منها؛ كانت تفعل بي كلّ ذلك من دون استطاعتي الإمساك بأطرافها وتحبيرها على قراطيسي...
كان لتلاعُب معاني القصّة ومدلولاتِها ما جعلني أكثر إصرارًا على تدوينها، لذلك قرّرت أنّني لن أبرح مكاني حتّى يعود لي فهمي وأدوّنه، مهما كان الثمن؛ لن أتزحزح خطوة واحدة، حتّى لو بقيت أكتب هنا قدر الأعوام التي أمضتها كاتبتُنا وهي تمدُّ يد العون لمن حولها، وتنسى نفسها. ولكن، مهلاً، يبدو أنّ عبارتي الأخيرة هذه أوقفتني بالفعل على ما خفي في نصّها المطلسم... لا أظنّني بحاجة لمن يبتسم الآن وهو يتعجّب من ربكة الفهم التي أعيشها، ويكاد يصرخ في وجهي مردِّدًا: «إنّه العطاء، العطاء يا متغوِّلًا على الحرف ومستبدًّا بالمعاني»!
أكاد أسمع صراخهم وتنديدهم بقصور فهمي، وهم يتمنّون ألا أتجاهل ما يقولون. وتأخذني العزّة بالإثم، وهم يشعرون أنّني لن أخرج من هذا لمأزق الذي أقحمت قلمي فيه، إلّا بالاستماع إلى ما يقولون، والانتباه أنّ مفتاح النصّ يكمن في العطاء! لا أُنكر أنّني سمعت صوتهم وصراخهم من بعيد، ولم يكن خافيًا بالنسبة لي أنّ النصّ يتحدّث عن العطاء، ولكن، ما أربكني هو نوع هذا العطاء، فلا أظنّه ذاك العطاء السلبيّ الذي يُطمِع الآخرين بك. ولم تكن هذه بغيتي من فهم النصّ، فالبساط الأوّل كان بالفعل عطاءً غير مقدَّر، قدّمته بطلة السرديّة سنين طوالًا، ويمثِّل الجزء الظاهر من النصّ الذي يتّفق عليه الجميع. وإنّما ما استعصى عليّ فهمه هو البساط الآخر الذي مدّته البطلة، وكان في وصف الراوي العليم ما يشير لاختلافه عن البساط الأوّل، أو عن جميع تلك البُسُط، وإلّا لما استثنته من بينها وخصّته بدهشة النهاية...
ولكن، مهلًا، أظنّني فهمت الآن مغزى الحكاية، وأخشى أن يكون في فهمي نهايتي، فهناك نوعيّة من البشر خُلقوا بقصور فهمهم، وترتبط حياتهم وسعادتهم بهذا القصور، فلو اجتهدوا وفهموا سيكونون قد حفروا قبورهم بأيديهم. فهل أنا من هؤلاء؟!
على أيّة حال، لن أكتم هذا الفهم في نفسي مهما كانت نتائجه، وسأدوّنه هنا، ولا أظنّه إلّا ويتعلّق بالإيثار الذي كانت تنتهجه البطلة، عندما آلت على نفسها أن تكون معطاءة مع الجميع، تبدّيهم على نفسها، وتنفق عليهم بسخاء مبالَغ فيه. والمفارقة التي خَلقت لنا ذروة الصراع ودهشة النهاية، تجلّت في التفاتها لنفسها في لحظة ما - وهو ما يحدث عادة مع الجميع إذ غالبًا ما يأتي وقت على الإنسان يتذكّر أنّ لنفسه عليه حقّا - وعندما فعلت ما كان ينبغي عليها فعله مبكّرًا، أنكروا عليها ذلك، وطمعوا في النذر البسيط الذي حاولت استبقاءه لنفسها...
نعم، أظنّ هذا مقصدها من الحكاية، وهو عمق ثريٌّ جدًّا، يمنح الحكاية قيمةً كبيرة بالفعل، وما كانت ستقوم لهذه القصّة قائمة بدونه؛ فالبشر، مهما قدّمْت لهم، يحسدونك على القليل الذي تستبقيه لنفسك، وينافسونك عليه، خاصّة إذا ما اعتادوا تضحياتك وتفانيك من أجلهم، وفقدت قيمتها بالنسبة لهم.
لا أصدّق أنّني استطعت الخروج من هذا النفق المظلم! وأرجو ألا يُغضب مؤلِّفتنا ذلك، فأنا لن أخوض معترك كتاباتها مرّة أخرى، إذ لا أظنّني سأنجح في كلّ مرّة في الخروج، وقد أضيع في متاهاتها. لذلك، سأقف بعيدًا مستمتعًا بحروفها، وأترك للباقين تفسيرها وفهمها، مكتفيًا بالتندُّر عليهم إن عجزوا عن ذلك، فالقصص الإبداعيّة القصيرة جدًّا، «يصعب قراءتها وفهمها»...