«الثقافية» - كمال الداية:
أ.د.عبدالرحمن الهليل.. هذا الاسم الشامخ في ميادين العربية، تخرج على يديه كبار النقاد والأدباء والشعراء، تشهد له قاعات الدرس بكلية اللغة العربية التي ملأها علمًا وإخلاصًا ومعرفةً، نكتب هذه السطور اليسيرة عن هذا العلم في ميدان الأدب والنقد، الذي تستضيفه «الجزيرة الثقافية» اليوم للحديث عن لغتنا العتيدة، لغة القرآن الكريم، لغة الثقافة والعلم.. ليشارك قراء الثقافية الهموم التي تحيط بلغتنا، والطموح والآمال التي يسعى شيوخها وأبناؤها لبلوغها.. حديث متنوع نابع من قلب عالمٍ غيورٍ على لغته وهويته، ستجدون فيه ما يفيد.. فإلى نص الحوار..
* هل نعاني من أزمة هوية لغوية؟
- قد يبدو لأول وهلة في إجابتي بـ»نعم» شيء من المبالغة والتشاؤم, ولكنها الحقيقة المرّة التي لا مناص منها في ظل الواقع الذي يعيشه أكثر الناطقين باللغة العربية؛ فأين لغتنا العربية ونحن نتجاوز حدود موطننا العربي إلى غيره من بقاع العالم؟، حيث نحسّ بالغربة في اللسان والثقافة وفي غيرهما، فلم يعد العربي تلك الشخصية التي تحمل ثقافتها الأصيلة باللسان العربي الفصيح، ولنعد إلى وسطنا العربي لنجد اللغة العربية مهجورة تماماً في بعض قاعات المحاضرات، وفي بعض مجالات البحث العلمي؛ وفي بعض أسماء الأسواق والمحلات التجارية، وبعض أسماء المطاعم والمقاهي وفي بعض ما يقدّم فيهما من أنواع الطعام والشراب، لتحل محلها لغة أجنبية، مؤكدين بذلك مقولة عجز اللغة العربية عن مواكبة التقدم والتطور الذي يعيشه العالم، وهي مقولة خاطئة ظالمة.
اللغة وعاء الثقافة، والثقافة عنصر مهم من عناصر الشخصية، ومكوّن رئيس من مكوّنات الهُويّة؛ فلا هويّة بدون ثقافة، ولا ثقافة بدون لغة.
* لماذا لا يقبل الجيل الجديد بالثنائية اللغوية؟
- لا أظن أحدًا يرفض «الثنائية اللغوية» على المستوى الفردي والشخصي، بل حتى التعددية اللغوية؛ فهذا مما يتميّز به الشخص ويفضل به في المجال العلمي والثقافي على غيره ممن لا يمتلك غير لغة واحدة، وما يطلب من الشخص حينئذٍ هو أن يكون ولاؤه الأكبر للغته الأم واعتزازه بها؛ لأنها أولاً لغة مصدره الديني (القرآن الكريم والسنة النبوية)، ولغة موروثه الشعبي، والثقافي الذي تضرب جذوره في أعماق التاريخ.
أما «الثنائية اللغوية» على المستوى الرسمي فتكتنفها سلبيات من أبرزها الازدواجية ومنافسة اللغة الثانية للغة الأم، وربما تغلبها عليها، فينعكس الحال وهو ما يترتب عليها مخاطر تهدد الثقافة التي تصوغ أكثر جوانب الحياة، كما تهدد المستوى اللغوي عند النشء، فلا يستطيع إخراج الحروف من مخارجها، فضلًا عن فقر قاموسه اللغوي من مفردات اللغة العربية، فيستعيض عنها من مفردات اللغة الأجنبية الدخيلة على مجتمعه وحياته الخاصة.
* لكم جهود كبيرة في خدمة العربية، تدريسًا، وبحثًًا، وممارسة، فمن وجهة نظركم ماذا تحتاج العربية لتكون أكثر مواكبة للواقع؟
- جهودي فيما ذكرتَه جهود متواضعة جدًّا، ومن وجهة نظري لم تعجز اللغة العربية في يوم من الأيام عن مواكبة للواقع ولن تعجز يوماً من الأيام عن مواكبة ما يستجدّ في حياة الناس على تنوّع المستويات، وتعدد المجالات؛ ويؤسفني كثيرًا المآل الذي آلت إليه اللغة العربية في موطنها الأصلي الذي دفعنا إلى أن نطرح هذا السؤال,
وعلى أية حال فإن ممّا يقوي اللغة، ويجعلها صامدة في وجه التحديات المختلفة يتلخص -في نظري- في الآتي:
1- قناعة أهلها بها، ووعيهم بأهميتها وفضلها، ومعرفتهم بضرورتها في التواصل فيما بينهم، وحرصهم على التحدّث بها في مكاتباتهم، وفي مشافهاتهم.
2- التفعيل العلمي الجاد للترجمة على نطاق واسع، ومستمر؛ حتى نصل إلى ما نريد، ونفهمه بلغتنا، فلا نحس بفجوة بيننا وبين ما يستجد كل يوم في العالم من إبداعات، واكتشافات، واختراعات، وابتكارات، في شتى العلوم والمعارف، والأنشطة الإنسانية.
3- دعم المراكز والمجامع اللغوية العربية، ماديًّا وبشريًّا، وتزويدها بالكفاءات العلمية المتخصصة المهتمة بشأن اللغة العربية، ومتابعة تلك المجامع والمراكز؛ وتذليل العقبات التي تعترض طريقه؛ لتقوم بواجبها تجاه اللغة العربية.
4- متابعة تنفيذ ما تتضمنه اللوائح والأنظمة من قرارات للتقيد باللغة العربية في اللوحات والدعايات
التجارية، والمخاطبات الرسمية، وغيرها.
* هل العلاقة بين العامية والفصحى علاقة طردية؟
- في رأيي: العلاقة بين العامية والفصحى علاقة عكسية وليست طرديّة، وإني لأعجب كثيرًا من الدعوة إلى العامية من بعض الفضلاء والفضليات من المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي في الشأن العلمي والثقافي في شتى بقاع العالم العربي.
* كيف تنظرون لمستقبل العربية؟
- أرجو لها مستقبلًا زاهرًا، وأدعو الله أن يحفظها بحفظ كتابه العزيز، وهو أكبر أسباب حفظها على الإطلاق، فمهما واجهت من تغافل عن أهميتها، أو تجاهلٍ له، أو عداوة مبطّنة لها؛ فإن القرآن الكريم سيبقى أقوى مدافعٍ عنها، وداعمٍ وحافظٍ لها، ولو كره الجاهلون، والحاقدون، والمنهزمون، والمبطلون.
* هل نجحت المؤسسات المعنية في دعم العربية؟
- للمؤسسات المعنية جهود في دعم العربية، وذلك على مستوى تعليم قواعدها، وآدابها من بلاغة وأدب ونقد، أما مخرجات هذه المؤسسات من الطلاب والطالبات فإننا للأسف نجد منهم مَن لا يسر مستواه اللغوي. بل إننا نجد من الأكاديميين أنفسهم من لا يجيد اللغة العربية في عقر دارها إما جهلًا أو تجاهلًا ، ومن هذه المؤسسات من يضرب صفحا عن التدريس بها غرورًا باللغة الأجنبية، أو ظنًّا أنها أكثر جدوى.
* يربط بعض المثقفين صعود العامية بهبوط الفصحى، بينما يرى بعضهم الآخر أن العلاقة بينهما تكاملية، فما رأيكم؟
- رأيي أن انتشار العامية وطغيانها في المجتمع يُضعف الفصحى ويقلل أنصارها، ويعيق نشرها وإقناع الناس بها، فالعلاقة بينهما عكسية كما سبق أن أشرت إليه، وأضيف هنا أنها ليست تكاملية.
س: يحيل بعض المختصين ضعف العربية عند النشء إلى غياب القوة الناعمة التي كانت تتمثل في الرسوم المتحركة التي أثبتت تأثيرها على الجيل السابق، فما مدى صحة ذلك؟
ج: ليس هذا وحده مما سبّب ضعف العربية عند النشء؛ بل هناك أسباب كثيرة منها:
- عدم مخاطبة النشء في حياته اليومية باللغة العربية الفصيحة المناسبة لمرحلته العمريّة، مما يفقده التدرب عليها، وإكسابه لها.
- إدمان النشء الاستماع إلى برامج وألعاب إلكترونية بلغة أجنبية، أو بلغة عربية غير سليمة.
* هل سنشهد اليوم الذي يُدرس فيه الشعر العامي في كليات اللغة العربية وأقسامها؟
- أدعو الله -عز وجل- ألا يكون ذلك؛ فالعامية مرض اجتماعي ثقافي يجب علاجه؛ فضلًا عن التمكين له، وتشجيعه، لأنها تهدد اللسان العربي، ولا تعبر عن الثقافة العربية الأصيلة، والعامية تعكس لهجات محلية وإقليمية متعددة غير قادرة على إفهام أفراد المجتمع الواحد، فكيف بنا ونحن نريد أن نخاطب العالم، ونتواصل معه، ونعبّر له عن ديننا وقيمنا وثقافتنا.
* لماذا يصور بعض اللغويين العلاقة بين العامية والفصحى أنها ساحة وغى؟
- لما ذكرته في جوابي السابق، فالعامية عدو الفصحى، وإن كان هذا حكمًا قاسيًا ومزعجًا لعض الفضلاء والفضليات، مما يرون غير هذا الرأي.
* ما رأيك فيما يسمى بـ»الشعر العامي»؟
- إن من أبرز ما تعد العامية وعاءً له هو ما يسمونه «الشعر العامي» ولا أهدف هنا إلى الحديث عن تاريخه وأهميته أو عدمها، فقد كتب في ذلك كثير من المقالات والدراسات، يأتي في مقدمتها كتابات ودراسات سعادة الأستاذ الدكتور سعد الصويان الرائدة الموسعة في هذا المجال.
والقول: إن الشعر العامي بأنه كتاب تاريخ وسجل حافل بالأحداث، نعم هو كذلك، ولكن لا يعني أنه المصدر الوحيد في هذا المجال، فالشعر العربي الفصيح أيضًا مصدر من مصادر التاريخ لأي حقبة زمنية وجد فيها.
ويخطئ من يظن أن رفض الشعر النبطي (العامي) رفض للإرث والتراث الشعبي للأمة؛ أو للأجيال الماضية، والصحيح أن من يرفضون الشعر الشعبي إنما يرفضون اللغة العامية أو غير الفصيحة التي كتب بها.
ومن الخطأ العلمي تسمية «الشعر العامي» بـ»الشعبي»؛ لأنه العامية في الحقيقة لغة لهجة مجموعة أو فئة أو أهل محلة أو إقليم محدود، وليست لغة الشعب الذي ننسب إليه.
ثم إن رفض ما يسمونه خطأً الشعر الشعبي لا يعني أننا نرفض كل شعبي من حرف ومصنوعات ومظاهر حياة بصرية ونحوها، وإنما الرفض فقط للوعاء اللغوي من لهجات عامية تخالف قواعد اللغة العربية، ويحرف أو يغير في مفرداتها حتى يكاد لا يفهمها إلا قلة قليلة من أهل البلد بل المدينة وربما الحي، فيكون أحيانًا فهم ما يلقونه أو بعضه من المعجزات، وهنا نفقد أهم وظيفة للغة وهي التواصل والإفهام، وتبادل المعارف.
ولا يعني استبعاد كل ما يصاغ بلغة عامية التنقص من شأن من ينظمون شعرهم أو بعضه بالعامية، أو التقليل من مكانتهم، فهم مقدّرون حق قدرهم ومحترمون، ومعترف لكل واحد منهم بمكانته، ,بقيمته، وبفضله فيما حققه من إنجاز نافع مفيد أيًّا كان نوعه، وفي مدوّنات بعضهم الشعرية ما يُمتع، ويطرب، ويعجب بمعانيه العميقة، وصوره الفنية المحمّلة بكثير من الدلالات؛ ولكننا لا نخالف الحقيقة العلمية إذا قلنا: إن اعتزازنا الصحيح بلغتنا العربية (لغة القرآن)، وتقديرنا لمكانتها الدينية والتاريخية والاجتماعية والمحافظة عليها، ليس في تشجيع ما يخالفها، ويخرج على قواعدها، ومقاييسها، وبلاغتها وفصاحتها، ولا في الاعتراف بما يخالفها ليكون لغة علم وبحث. هذه هي الحقيقة التي لا أظن أحدًا يخالفها.