د.عبد العزيز سليمان العبودي
في صباح يوم جميل في مدينة بيتسبرغ الأمريكية، في عام 1995، قرأ ماكارثر ويلر كتاباً يتحدث عن الخدع وأساليب التمويه، وكان من ضمنها، استخدام عصير الليمون كحبر غير مرئي يظهر عند وضعه بالقرب من مصدر حراري. هذه المعلومة جعلته يفكر باستخدامٍ آخر لعصير الليمون، معتقداً أنه سيخفي أي جسم يتم دهنه فيه. فقام بدهن وجهه بعصير الليمون، وذهب لسرقة أحد البنوك. بطبيعة الحال اعتقلته الشرطة في نفس اليوم. وبعد أربع سنوات أصبحت قصته، حالة لدراسة بحثية، حاول فيها عالما النفس دانيال دانينج وجوستين كروجر توضيح السؤال: كيف يمكن لشخص محدود المعرفة أن يثق بنجاحه؟
وبعد بحث مطول توصلوا إلى نتيجة مقلقة إلى حد ما، وهي أن الثقة متناسبة عكسيا مع المعرفة. بمعنى آخر، كلما قلت المعرفة، زادت الثقة، والعكس صحيح. فسميت هذه العلاقة «تأثير دانينج كروجر» لتقرع جرس إنذار خطير في مجال العمل، حيث تلعب الثقة دوراً رئيسياً في اتخاذ القرارات. بطبيعة الحال، يمكن أن يكون نقص المعرفة كارثيا. كذلك تقليل الخبراء من مستوى كفاءتهم، يحد من مبادرتهم واتخاذهم للقرارات. فلماذا لا نقلق أيضا بشأن نقص الثقة نتيجة للمعرفة الزائدة؟ وهذا قد يفسر سبب تمكن بعض الجهال من الصعود لمنصات القيادة، حيث يكمن في تواضع أصحاب المهارات العالية وانتقاصهم لأنفسهم، فظلوا على الهامش. ووفقا لتأثير دانينغ كروجر، فإذا كنت عرضة للشك في الذات، فمن المحتمل أنك مؤهل بالفعل بما فيه الكفاية (والعكس صحيح). ولا يمكن إنكار أن الثقة المفرطة غالبا ما تؤدي إلى الفشل، ولكنها تلعب أيضا دورا في أعظم نجاحاتنا.
وفي نفس السياق، يقدم عالم النفس دانيال كانيمان، الحائز على جائزة نوبل، في كتابه (التفكير السريع والبطيء) استطلاعاً مثيراً للاهتمام. حيث يتوقع 81 في المائة من رواد الأعمال الأمريكيين أن فرصتهم في النجاح هي 7 أو أعلى من أصل 10، ويعتقد 33 في المائة منهم أن فرصتهم في الفشل هي صفر. مع أن معدل البقاء الحقيقي للشركات الأمريكية الناشئة لمدة خمس سنوات هو 35 في المائة فقط. وفي نفس الكتاب فصل بعنوان (محرك الرأسمالية)، يسجل كانيمان ملاحظاته، بأن الأشخاص الأكثر تأثيراً على الآخرين، متفائلون ومفرطون في الثقة، ويتحملون مخاطر أكثر مما يدركون. فعندما تكون هناك حاجة للعمل، فالتفاؤل، حتى من النوع الوهمي المعتدل، أمر جيد. لذا وفي عالم متشبع بالخبراء والمعلومات، قد نتعلم من الأشخاص الأقل كفاءة. وقد تحدث العديد من الكتاب عن العلاقة المتناقضة بين المعرفة والعمل. ويتضح ذلك من خلال القصة القديمة للقط والثعلب، كما رواها الشاعر الفرنسي جان دي لافونتين: فبينما يتباهى الثعلب بمعرفة مائة حيلة، يكتفي القط بحيلة واحدة. وحين يلاحقهم الصيادون، يتسلق القط الشجرة، بينما يضيع الوقت على الثعلب في محاولة تحديد ما يجب القيام به، وينتهي الأمر به أسيراً أو ميتاً. وأحد الأمثلة على اتخاذ القرارات المطولة، ما حدث لشركة كوداك العملاقة للتصوير الفوتوغرافي، ففي منتصف سبعينيات القرن العشرين، كانت الشركة رائدة في أول كاميرا رقمية. لكن الأمر استغرق عدة عقود للتغيير، وذلك بسبب أرقام المبيعات المرتفعة والقائمة على صناعة الأفلام التقليدية، التي جعلتها مترددة في ذلك. وبحلول عام 2000 أصبحت الشركة رقمية بالكامل، بعد أن تجاوزوها منافسوها. وفي عام 2012، تقدمت كوداك بطلب للإفلاس. وعلى غرار ذلك، كان الرئيس الأمريكي هاري ترومان محبطا من تذبذب مستشاريه الاقتصاديين. فكان يقول: تعبت من سماعهم يقولون «من ناحية ... ثم من ناحية أخرى»، فطالبهم بالاتجاه لتطوير سلاح واحد. وسرعان ما أصبحت هذه الظاهرة منتشرة في عالم الأعمال.
وقد أدرك مؤسس التخطيط الاستراتيجي، إيغور أنسوف، أنه في كثير من الأحيان تستخدم الشركات نهجها التحليلي الخاص، من خلال الوقوع في عملية تخطيط لا نهاية لها، فحذرها من «شلل التحليل». ويمكن تطبيق نفس الأسلوب أيضا في مجال الأعمال. فالإدارة الرشيقة، تشبه قطة لافونتين، فهي تفضل العمل السريع على التخطيط والترقب، وتفضل التعلم خلال العمل بدلا من التخطيط المسبق لكل عمل. ونحواً من ذلك تقوم طريقة أجايل Agile بتطوير المنتج عبر سلسلة من التكرارات، مما يسمح لها بإعادة ضبط التصميم في كل مرحلة من مراحل المشروع، وذلك بناءً على ملاحظات العميل. والهدف هنا ليس إنشاء المنتج المثالي من البداية، ولكن تطويره في أسرع وقت ممكن، وترك التعديل يتم مع الوقت إذا لزم الأمر. وبعد ظهور البيانات الضخمة وتكنولوجيا المعلومات، وفي سبعينيات القرن العشرين حذر الكاتب ألفين توفلر قراءه من شكل جديد من الشعور بالضيق، من خلال تعميم مفهوم «ترهل المعلومات»، الذي توقع أنه سيؤثر في العمال والأفراد في حياتهم الخاصة. فحينما تضخمت المعرفة الرقمية بدأت تظهر مصطلحات مثل: شلل التحليل، والحمل الزائد للمعلومات، وكذلك الضباب الدخاني للبيانات، أو ترهل المعرفة، مما يؤدي إلى تضخيم تأثير دانينغ كروجر. وأخيراً بعد توسع مفهوم الذكاء الاصطناعي الذي كان محصوراً بين المتخصصين، حتى انتشر أخيرا عبر منصات التراسل ليستخدمه الجميع، فبدأ بثقة عالية، يضخ كماً من المعلومات تم استقاؤها من البيانات الضخمة المتناثرة هنا أو هناك. هذا التدفق المعلوماتي، غير الموثوق سيضاف إلى المكتبات العلمية المختلفة سواء كانت ورقية أو إليكترونية ليدمج وهم المعرفة مع الترهل المعرفي. وقد حذر برابهاكار راغافان، نائب الرئيس في جوجل، بشأنه، وقال «هذا النوع من الذكاء الاصطناعي الذي نتحدث عنه يمكن أن يؤدي إلى ما يمكن تسميته الهلوسة. حيث تقدم الآلة إجابة مقنعة ولكنها وهمية تماما». وضآلة العلم البشري يؤكده الله سبحانه وتعالى، فمهما أوتي البشر من علم فهو قليل، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا).