سهام القحطاني
إذا أردت أن يؤمن الناس بالتاريخ فاحمل عيونهم إليه.
أثار الفيلم الوثائقي «كليوباترا» الذي أغضب الشعب المصري وكل رافض لتزوير التاريخ، مدى سلطة الفيلم الوثائقي في تغيير حقائق التاريخ، وتحولها إلى «غزو فكري جديد» يعبث بالمدخرات التاريخية للشعوب.
الوثائقية ليست في المقام الأول رؤية أدبية للمحتوى التاريخي بل هي «صياغة فنية للمحتوى التاريخي».
وهذا القول يُعيدنا إلى تعريف ابن خلدون للتاريخ في مقدمته فيقول: «فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، إذ هو في ظاهره لا يزيد عن أخبار تنمو فيه الأقوال، وتُضرب فيها الأمثال، وتُطْرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وفي باطنه نظر وتحقيق،..وعلم بكيفيات الوقائع،...وأعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب».
ولعل ابن خلدون هو أول من سلط الضوء على «الأصل الفني للتاريخ» واعتبره «فناً»،وهو اعتبار نقف أمامه، وخاصة وأن ابن خلدون في مقدمته يُعرف «حقيقة التاريخ بالخبر»، وهو بذلك يجمع في التاريخ بين «الخبر»كحقيقة و «الفن» كنشاط مهاري يتم بوسائط إبداعية يمتزج فيها الخيال بالحقيقة والواقع بالرأي والتأويل.
واعتبار ابن خلدون التاريخ ككينونة فنية لعل مرجعه إلى طبيعة تقديم التاريخ لا طبيعة أصله، وهنا يُقدم ابن خلدون «مهارة تقديم التاريخ» على «أصل طبيعته كخبر» ولذلك يصنفه كفن لا كعلم إما بسبب شبهة الإبداع أو التأويل والتلفيق، باعتبار الفن نقل الواقع بتصرف إبداعي.
وقوله هذا يتضمن أدوات صناعة «المحتوى الوثائقي» الذي انتشر نهاية القرن التاسع عشر.
يحتل الفيلم الوثائقي أو المحتوى الوثائقي المرتبة الثالثة بعد الحدث الأول والرؤية الأدبية ثم يأتي هو «كعين ثالثة للتاريخ»، والمحتوى الوثائقي يتشابه مع الرؤية الأدبية في خاصية كما يفترق عنها في خاصية.
الرؤية الأدبية هي إعادة بناء الحدث التاريخي بتصرف كما يعتقد الأديب وفق تأويله الخاص، إضافة إلى أن إعادة ذلك البناء لا يسلم من أيديولوجية مدسوسة.
وفي المقابل يشترك الفيلم الوثائقي مع الرؤية الأدبية في خاصية إعادة بناء الحدث التاريخي وفق تعريف الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما والتلفزيون بأن الفيلم الوثائقي هو «الفيلم الذي يتعامل مع موضوعات تاريخية أو اجتماعية أو علمية أو اقتصادية، سواء صُور وقت وقوع الأحداث الحقيقية، أم أُعيد بناء أحداثه الحقيقية وتجسيدها «أعيد تمثيلها»؛ إذاً يكون تركيز الفيلم الأساسي على المحتوى الحقيقي أكثر من اهتمامه بالجوانب المتعلقة بالتسلية».
ووفق هذا التعريف فإن ما يُفرق الرؤية الأدبية عن الفيلم الوثائقي «نوع الغاية» وليست طريقة إعادة البناء، وهناك أمر آخر قد يكون فارقاً مفصلياً بينهما وهو»حق التصرف الإبداعي» الذي يملكه الأديب، ولا يملكه صانع المحتوى الوثائقي التاريخي «الصحفي الوثائقي أو الاستقصائي» الذي عليه أن يلتزم بمعايير الموضوعية والصدقية البحتة.
لكن الرؤية للوسائط الوثائقية تتطور بتطور ثقافة الصورة وتقنياتها، و البنية السردية وآلياتها وهذا التطور دفع الكثير من صنّاع المحتوى الوثائقي إلى الميل لخط درامي للمحتوى التاريخي يجمع بين المعرفة والغاية التعليمية كمقصد أول للمحتوى الوثائقي و»التسلية والمتعة الفنية» كمقصد آخر يتساوى في صفة القيمة مع مقصد الغاية والتعليم، كالأفلام الإبداعية ولعل هذا ما دفع باتريشيا أوفدر هايدي للقول بأن «معظم صنّاع الأفلام الوثائقية يعتبرون أنفسهم قاصّين وليس صحافيين»-الفيلم الوثائقي،ت/شيماء الريدي-
استطاع الفيلم الوثائقي «فهرنهايت 11/9» لأحداث الحادي عشر من أيلول للعبقري مايكل مور الذي حصد جماهيرية مذهلة على مستوى شباك التذاكر والجوائز واُعتبر ثورة في صناعة الأفلام الوثائقية، أن ينقل الفيلم الوثائقي التاريخي من مجرد معلومات وأحداث إلى حبكة درامية جمعت بين المعرفة والإبداع والتأثير مستثمراً الصورة الفنية المبهرة بكل تقنياتها، ليستحق أن يكون عينا ثالثة للتاريخ.
كان اختراع «السينما» تحولاً فكرياً وإنسانياً الأهم والأخطر في حياة الإنسان حتى اليوم، فكانت كالفانوس السحري الذي يحول كل خيال إلى حياة تسير على قدمين، وكل ماضٍ إلى حاضر حي بألوان الحياة.
كان أول ظهور للأفلام الوثائقية في فرنسا عام «1916» تحت مصطلح الأفلام التسجيلية، أما مصطلح «الوثائقية» فكان الظهور الأول له عند الإنجليز.
إن الشغف المعرفي للإنسان لا يقتصر على «كيف سيكون العالم في المستقبل وأسراره» الذي كان من أهم أهداف سينما منتصف القرن العشرين، بل امتدّ ذلك الشغف لمعرفة «اكتشاف أسرار الماضي الخفية» هذا الشغف الذي حوّل التاريخ إلى حكايات حيّة والفيلم الوثائقي إلى شهرزاد.
فالأفلام الوثائقية التاريخية هي قصص «لماضٍ قابل للاستخدام» بأمثلة عديدة-»-باتريشيا أوفدر هايدي-
إن خطورة الفيلم الوثائقي التاريخي أنه يدسم لك السم ليس في العسل بل في ألق الصورة بحيث تبهرك الصورة فيتسرب مضمونها إلى وعيك دون مقاومة، والتاريخ هنا يكذب ويتجمّل.