د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
حبيبتي لن تقرئي هذه المداخلة، فليس لها حظ أن تعرض عليك كما عرضت أخواتها؛ فكنت تعدلين لفظًا أو تصححين خطأ أو ترين إيضاحا غامضا أو إضافة احتراز، كانت موافقتك لصحة ما كتبت تدعوني إلى إرسالها مطمئنًا، وكنت أنت من يحتفي بكل حرف أكتبه، تتحدثين عنه وتدعين إلى قراءته. قالت زميلة لك «وسمية أبوأوس عندها جملة مفيدة».
جعلت يوم مناقشتي لرسالتي الماجستير والدكتوراه يوم فرح وبهجة وعيد، ويوم أقدمت الجزيرة الثقافية إلى إعداد عدد تكريمي لي كنت أنت من يحشد الأصوات ويحثّ الزملاء والأبناء والطلاب، من غير أن أعلم عن ذلك، وكذا يوم كرمتني صحيفة جسور في مركز حمد الجاسر، بل كتبت فيها مقالًا فريدًا، أما كتاب الأسرة الذي ضم ذلك كله فكان مقالك بدايته وبحثك عن الخوف في حياة النبي موسى نهايته، قلت لك: جعلت الكتاب بين هلالين، وحين طبع الكتاب فرحت به فرحًا لا حدود له، نشرته بين الناس الأهل والصديقات وبناتنا من الطالبات، وهكذا فعلت في الكتاب الذي ظهر بعده (أخي محمد)، كنت لي الدعم والعون والمساند على الدوام.
تعود بي الذكرى إلى ذلك اليوم حين دخلت القسم، قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، رأيتك ذلك اليوم زهرة برية متفتحة، كنت جالسة بأناقة ملكة شرقية إلى جوار مكتب الأستاذ الدكتور أحمد مرسي أستاذ الأدب الشعبي، في ذلك اليوم سلمت عليه؛ لأني أعرفه، وانصرفت لأجلس على كرسي في انتظار وصول أستاذنا الدكتور محمود فهمي حجازي، لم أسلم عليك ولا على المرأة الأخرى التي تجلس أمام الأستاذ فقد كان الحياء يمنعني من ذلك. رأيتك تحادثينه بما لم أسمعه، ولكنك أخبرتني بعد ذلك، سألته من هذا فقال: ألا تعرفينه إنه من بلدياتكم، ثم جاء حجازي وجاء الطلاب وتحلقنا حوله واحتفى بوجودك ورحب بك ترحيبا؛ إذ كنت طالبة نجيبة في القسم من قبل، وعمل في جامعة الكويت من قبل، وحين انتهى الدرس نزلت ونزلت معك، فحدثتني عن سبب قدومك، وهو أنك تريدين معلومات لصديقتك (طيبة الشذر) زميلتنا في هذه الشعبة، كنت من ذلك الوقت المبكر غيرية تهتمين بمن حولك وتبذلين النفس والنفيس لإسعادهم.
لم يكن يخطر ببالي ذلك اليوم أنك أيتها الزهرة البرية ستكونين نور حياتي وبهجة نفسي وأم أبنائي الأحباء أوس وديمة وبدر وبدور. لم يخطر ببالي أنك ستستولين على عقلي وقلبي. في يوم قلت لي «أنا أثق بك كما أثق بأخي»، وحين لقيتك صدفة في معرض الكتاب في الجزيرة في القاهرة كنّا كأنّا على موعد، فرح كل منا بالآخر، واشتريت لي تذكرة الدخول، لم تكوني وحدك بل مع زميلة لك، آثرت صحبتي، فاستأذنت منها؛ لأن ما نتطلبه من كتب موضوعها واحد، اللغة والنحو والصرف، كنت طالبة ماجستير في كلية البنات في جامعة عين شمس. أمضينا سحابة ذلك النهار في المعرض وقفنا على أجنحته تصفحنا الكتب قرأنا الفهارس واشترينا ما شاء الله لنا أن نشتري، خرجنا لنستعد لأخذ السيارة مع زميلتك فإذا بها قد مضت بها، أخذنا سيارة أجرة، من ذلك الوقت شاء الله أن تكوني حياتي ودنياي، من ذلك الوقت كنت دليلي في القاهرة عرفتها ورأيتها بعينيك، عرفتني على الأساتذة، صحبتني لزيارة الدكتور حجازي وأسرته والدكتور عبدالصبور شاهين، والدكتور يوسف خليف، صحبتني إلى مجمع اللغة لنلقى الدكتور شوقي ضيف ولأطلع على شرح الكتاب للرماني، بل صحبتني إلى بيت الأستاذ محمود شاكر الذي كنت أهاب لقاءه، قلت لي بعد تحديد موعد مناقشتك، سنذهب إليه لندعوه للمناقشة لأنك زرته يوم كان موضوع (صيغ الجموع في القرآن الكريم) فكرة، أردت الاستئناس برأيه، قال: أنت هتهببي أيه في الموضوع ده؟! خرجت منكسرة الخاطر ولكنك لم تفقدي اليقين بالله وتعبت حتى نلت مرادك وكتبت الرسالة وخططت بيدي عنوانها على الصفحة الأولى فطرت فرحًا بكتابتي، ويوم المناقشة كان شاكر في الصف الأول ونزل المناقشون من منصتهم للسلام عليه.
كانت لك قدرة عجيبة على محبة الناس واكتساب صداقتهم، لم أر من يجمع بين صداقة المتنافرين، له قدرة هائلة على مواصلة القريب والبعيد الصغير والكبير، كل يجد أنه موضع اهتمامك، طالباتك لا يسمينك إلا ماما وسمية. وبك عرفني الناس واهتموا لأمري وانتبهوا إلى شخصي، وكذلك هم أبناؤك عرفوا بفضلك وسعة علاقاتك الاجتماعية المبنية على المحبة والتقدير وبذل الخير. كنت تطالبين دائمًا بفئات نقدية صغيرة؛ لأنك ما خرجت إلى الشارع إلا نفحت من تصادفين من العمال. وغير مرة تعطين ابننا بدرًا مبالغ من المال ليتصدق بها بعد صلاة الجمعة.
وعلى الرغم من فضلك وفيض عطائك وبذلك كان يثقلك المعروف ينالك من أحد، وتتوجسين أن تكوني ثقيلة متعبة لأحد، فكنت ترددين حين بدأت تلازمين الكرسي المتحرك وثقلت حركتك وانتقالك، كنت ترددين «اللهم لا تجعلني عبئًا ولا وجعًا لأحد»، كنت تخشين أن تصلي إلى مرحلة تحتاجين إلى غيرك يعنى بأمورك الشخصية، كان هذا همًّا من همومك، كم مرة سمعتك ترددين «اللهم اجعلنا من حيلنا لقبيرنا». وتقبل الله دعواتك ولله الحمد والمنة.
كانت بلدك الكويت عشقك، لم ترضي تغيير هويتك وعشت في الرياض سفيرة لبلدك حفية بها وكنت في الكويت في زيارتك سفيرة لبلادك الأخرى مملكتنا الحبيبة، جعلت شعار الوثاب(1) علمي البلدين، ويوم نشأت مشكلة بسبب خطأ إعلامي كنت من هبّ لمعالجة ذلك فسافرت من الرياض إلى الكويت لمقابلة وزير الإعلام، الذي ألف لجنة سافرت إلى الرياض وعادت الأمور إلى نصابها. أوصيتني دائمًا أن تدفني في الكويت، فحقق الله لك، لما اختارك إلى جواره وأنت في الكويت أمس 14 من شوال 1444هـ الموافقه 4/5/ 2023م. توفيت بين يدي حبيبتنا الغالية ابنتنا البارة ديمة وهي من غسلتك واهتمت بأمرك، لقد من الله علينا جميعًا.
رحمك الله حبيبتي رحمة واسعة وإن الألم ليعتصرني أنّ هذه مداخلة لن تقرئيها.
(1)بدأت قبلي باستعمال الجوالات الذكية بتطبيقاتها المذهلة، وكنت أسمعك تخاطبين طالباتك عن شيء عرفت بعد مدّة أنه whatsapp، فقلت ما (الوثّاب؟) فأعجبك اللفظ، ورأيت أني عربت مصطلح التطبيق، ورحت تنشرين هذا بين من تعرفين، وفي ندوة في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود كان الحديث عن التقنية ومصطلحاتها شارك فيها (د.نبيل علي)، فطلبت المداخلة لتعلني أني عربت المصطلح، كان الفضل لك ولحماستك في ذلك وتكرر هذا الإعلان في تعقيبك على محاضرة للدكتور محمد حسان الطيان وتبين أنه استعمل اللفظ نفسه للتطبيق.