لا شك أن فقدها فجيعة لكل من عرفها، فكيف بمن تتلمذ على يديها واقتبس من نور إنسانيتها؟! عندما سمعت الخبر -وكنت حينها في مكان عملي- ذُهلت به وكأني لم أسمعه، وظللت حوالي الساعة أعمل وأتعامل كأنه لم يبلغني، بعدها شعرت أن البكاء يفيض -رغما عني - من أماكن عميقة في روحي ويصب في عينَي. لا أكتب اليوم لأبكيها أو لأتحدث عن فقدها الذي لا يُملاً؛ فكما قال الشاعر:
وَأَفجَعُ مَن فَقَدنا مَن وَجَدنا
قُبَيلَ الفَقدِ مَفقودَ المِثالِ
بل أريد أن أتحدث اليوم عن إنسانيتها في أستاذيتها التي ندر مثيلها. عندما يعطي الأستاذ المقررات حقها، وينصف الطلاب في درجاتهم، ويكون موجودًا متى ما احتاجوه في ساعاته المكتبية فنعم الأستاذ هو! لكن ماذا نقول عمّن كانت لا تغلق بابها أبدا؟! كان باب مكتبها مفتوحا دائما، ترحب بكل من يمر من أمامه، وتدعوه للدخول، وتقدم له الضيافة، وتسأله عن أحواله، ولم يكن هذا بعد أن شرفنا بمزاملتها في القسم؛ لا بل ونحن طالبات صغيرات في مرحلة البكالوريوس لم تجاوز إحدانا العشرين، ربما كانت تقتحمنا العيون في المجالس وتستصغرنا أن نجالس النساء الكبيرات قدرًا وعمرا، بينما كانت هي ترحب بمن تمر منا على مكتبها وتسألها عن أحوالها باهتمام وتشجعها وتدعمها.
كانت -رحمها الله- تأخذ الطالبات المتفوقات إلى مستوى أعلى، فلا تكتفي بما يأخذنه في قاعات الدرس. أذكر أنها -رحمها الله- دعتني أنا وصديقتي د.فاطمة العتيبي الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية، وكنا يومها طالبتين في المستوى الثالث من مرحلة البكالوريوس- دعتنا إلى القراءة في التراث، وخصصت لنا جلسة دورية في مكتبها نقرأ فيها معها من كتاب عيون الأخبار، كنا نجلس في تلك الجلسات روحين غضتين تتشبعان دروسًا عظيمةً لا تُنسى، وعقلين صغيرين مشدوهين أمام التراث وأمام تواضع هذه الأستاذة العظيمة التي تشاركنا القراءة والمناقشة.
أخذتُ مادة (بحث التخرج) معها، واقترحتْ على الطالبات في تلك الشعبة موضوعات للبحث، وكنت حينها ذات شخصية قوية، أقوى بكثير من يومنا هذا، وأكثر قوتها كانت مستمدة من الجهل وقلة الخبرة، فطلبتُ منها أن اختار موضوعي بنفسي. لم توافق فحسب؛ بل شجعتني وفرحت بي ودعمتني في فكرة بحثي، وبعدما أنهيته طلبت مني أن أحضر جهازي الحاسب المحمول، وأخذت توجهني للتعديلات في كل سطر وهامش وبنط خط ... هي توجه وتعلّم وتشرح وأنا أعدّل، ثم قدمتْ بحثي إلى جائزة مركز البحوث ففاز بالجائزة. ظلت تفتخر بي بعدها سنين، وتعرّف بي قائلة: «هذي بنتي عبير، فازت بجائزة مركز البحوث، أعطيت البنات موضوعات وقالت: لا، أريد أن اختار موضوعي»، تقولها وهي تضحك مفتخرة، ولا تنسب لنفسها أي شيء من الفضل، مع أن الفضل كله لها بعد الله، فأي تواضع وأي دعم وأي إنسانية!
ثم بعد ذلك تأتي مواقفها معي أثناء إشرافها على رسالة الماجستير ويوم المناقشة، التي تقصر هذه المساحة عن ذكر شيء من تفاصيلها؛ لكنها ستظل عمرًا محفورة في قلبي وروحي.
د. وسمية، ستذكر دائما تلميذاتك صوتك بندائك اللطيف لكل واحدة منا «يا بنتي» و «يا يمه». كنتِ وسمية، مطرًا صيبا نافعا أمطر حياة كل من عرفك، وأنتِ وسمٌ في قلوبنا وأثر باقٍ لا يستطيع الموت محوه. أمطر الله عليك رحمته وغفرانه، وجمعنا بك في مجالس الجنة «يا يمه».
** **
- عبير الطلحي