ران صمت ثقيل على المكان ومن فيه، وتغشت وجوه الصغار حالة من الإحباط، بعد أن كسر أصغرهم بروتوكولات العيد؛ برفضه أخذ الحلوى، لم يبدد هذا السكون سوى صوت طنين ساعته الكاسيو، التي سبق أن وقّتها لتكون حاضرة في هذا المشهد المنتظر على الأقل من جانب الصغير!
الساعة تصدر صوتًا حادًا، والصغير غير مكترث لما يسمع، والكبار يرون في وجهه شيء من الخيلاء ممزوجًا بالسعادة، أما أترابه فقد أذهلهم الصوت، وراحوا ينادونه وبصوت واحد؛ الساعة ترن!، الساعة ترن!، لم يعرهم الصغير اهتمامه وفضل تجاهلهم، وخاصة أن الكبار -كما يعتقد- كانت نظراتهم ترسل له سيلا من الإعجاب والتقدير لشخصه ولساعته الخارقة!
صاحب البيت سأله: هل هذه الساعة (توزوز) عند الصلاة؟، هنا اعتدل الصغير في جلسته ووضع فنجان الشاي على الأرض وأزاح طاقيته إلى الأمام، وقال في لهجة واثقة؛ نعم يا عم وأضاف وبكل خيلاء؛ أنني من يوقّت هذا الجرس متى ما أردت وفي أي وقت، وفي محاولة من الصغير للإسهاب في التعريف بقدرات ساعته الخارقة، قام وجلس بجانب صاحب البيت، وشرح له بعض خصائص تلك الساعة الفريدة، وأهم شيء فيها بعد الجرس؛ ذلك الضوء الخافت الذي يشع من داخلها وذلك بعد ضغطه أحد أزرارها الجانبية.
خرج الصغير من البيت الأخير وسياط النقد والتوبيخ تنهال عليه من أترابه، بعد رفضه أخذ الحلوى، فهذا التصرف فيه تهديد لمتعة العيد عندهم، إضافة إلى أنهم بدأوا يشعرون بالغيرة منه ومن تصرفاته، التي كانت تعد خروجًا عن طبيعة هذه المناسبة وما تقتضيه من قواعد، كل الصغار كانوا يعرفونها ويعونها جيدًا.
حشروا الصغير في زاوية ضيقة، وانهالوا عليه بالتوبيخ والويل والثبور إن هو عاد إلى تصرفه المذموم الأخير، وإمعانًا في أذيته، أخذ أحدهم طاقيته المزخرفة ورمى بها في الشارع، شعر الصغير بألم بالغ كون هذا التصرف يتعارض ومستواه الأدبي الرفيع الذي يشعر به في هذا العيد!، ناهيك عن أناقته التي سوف تتأثر كثيرًا نظير غياب هذه الطاقية ولو للحظات بسيطة.
لكن الصغير أصر أماهم على رفض الحلوى وأنها لا تناسبه وتؤذي أسنانه!، هنا عقد أترابه الصغار مجلس حرب مصغر، أعلنوا فيه، مقاطعة الصغير ورفضهم المطلق أن يصحبهم في رحلات معايداتهم لبيوت القرية الباقية، فرح الصغير بهذا القرار وإن تظاهر بعدم الرضا، لكنه في قرارة نفسه ولكونه ممتلئا بالثقة، فقد رأى في هذه الخطوة فرصة ليدير ذاته المستقلة في هذا العيد، وليظهر للجميع مقدرته على التميز حتى ولو كان الثمن تلك المقاطعة المعلنة قبل قليل.
اقترح الصغير أن يتقدم عليهم ويكون دخوله قبلهم، وهم يكونون على أثره، ولا يدخلون حتى يخرج، فتكون الفرصة مواتية لهم لأخذ ما يشاءون من حلوى العيد.
دخل الصغير المنزل الأقرب وكان في قمة سعادته كونه سيجد نفسه وحيدا أمام الآخرين متحررا من تراتبية كانت تزعجه؛ خاصة أنه كان وما زال أسيرًا لها ولعواملها الثابتة، فقد كان أضعفهم بنية وأقصرهم قامة، وإن كان دائمًا ما يفوقهم حضورًا وذكاءً.
دخل الصغير المنزل التالي، ثم صاح مستأذنًا كعادة الكبار: أهل البيت، يا أهل البيت، أهل والله؛ صاحب البيت يرد على الصغير، دخل الصغير، كل عام وأنتم بخير يا عم، كل عام وأنت بخير يا ولدي، جلس الصغير وقبل أن يبادر صاحب البيت بالجلوس، قال الصغير، لا تصب يا عم والله ما أبغي شيئا؛ تصرف يحاكي فيه تصرفات الكبار في العيد، ثم أردف قائلا حتى الحلاوى، والله ما أبغاها ولا أكلها، ابتسم صاحب البيت وقال: لم يا ولدي؟، قال الصغير مستحضرًا مسوغه الأهم، لأنها تضر الأسنان، قال صاحب البيت، واحدة يا بني لا تضر، أصر الصغير على رفضه، قال صاحب البيت، لكن هذه الحلوى ستعجبك، وبالفعل كانت صنفا فاخرا من الحلوى وخاصة أنها كانت من حلوى الحلقوم التي يعشقها الصغير، ضعف الصغير أمام الحلقوم وأخذ واحدة وقام بأكلها مستعجلا خوفا من أن يراه أترابه الصغار، وبالفعل استطعمها الصغير ووجد فيها طعما ونكهة تستحقان التضحية بمبدأه المعلن!.
هم الصغير بالخروج لكن راعي البيت أصرّ أن يطيبه، فخرج ليحضر زجاجة الطيب من غرفة مجاورة، وأمام صحن الحلوى أضاع الصغير ما تبقى من مبادئه التي سبق أن أعلنها على الملأ، فمد يده إلى الصحن وفي حركة سريعة أخذ منه قطعتين من الحلقوم ووضعهما فى جيوبه الداخلية، ليؤكد الصغير أنه متناقض من طراز رفيع، فأمام أترابه كان له رأي متشدد، وفي خلوته كان لصحن الحلوى رأي جديد!.
دخل صاحب البيت وطيب الصغير الذي استأذن في الحال ليتيح المجال لأترابه لأخذ حصتهم من الحلقوم التي يبدو أنها استطاعت أن تعيد الصغير إلى واقعية جديدة، تعيده إلى أترابه وتعيدهم إليه.
كان الصغير كالنحلة ينتقل من بيت الى بيت، وهو في كامل سعادته وعنفوان اعتزازه بنفسه وبهندامه المتميز في كل شيء، بدءا بحذائه الأسود، وجاكيته الأزرق، وطاقيته المزركشة با للون الأصفر، في خلطة لونية عجيبة ذهبت وذهب زمنها الجميل ولم يبق منها سوى تلك الذكريات الآسرة، وتلك المجتمعات النقية المتسامحة، التي كانت تصنع الفرح بأبسط الإمكانات وتعيشه أسلوب حياة.
** **
- علي المطوع
@alaseery2