من الأخطاء السائدة قول بعضهم بأن ثمة فرعين في مجال «اللغويات» أو «اللسانيات» وهما: (1) «اللغويات النظرية» (Theoretical Linguistic) أو (2) «اللغويات التطبيقية» (Applied Linguistics) . فزعموا بأن اللغويات النظرية يمثلها النحو الصرف وعلم الأصوات والصوتيات إلخ، ويمثل اللغويات التطبيقية بقية الفروع كـ «التيسول» (TESOL) والترجمة وتعلم اللغة واللغويات الاجتماعية إلخ. ورغم أن هذا التقسيم راسخ ومعتبر، إلا أنه لا ينجو من الأخطاء التفريعية، فاللغويات التطبيقية لا ينبغي أن تكون فرعًا كبيرًا ومستقلًا بذاتها، أو فرعًا أساسيًا ومقابلًا للغويات النظرية. فكما أن ثمة «نظريات» في علم النحو والصرف وعلم الأصوات والصوتيات، فثمة «نظريات» أيضاً في ميدان الترجمة واللغويات التطبيقية والاجتماعية إلخ. فمن غير الصواب جعل «التنظير» هو المعيار في التقسيم. الأصح أن نقول بأن الأم هي «اللغويات» (بشكل عام) أو «اللغويات النظرية» (بدعوى أن جميع الفروع تحوي نظريات) وأن البنات هي النحو والصرف واللغويات التطبيقية واللغويات الاجتماعية والترجمة وعلم الأصوات والصوتيات ... إلخ.
في ضوء ما سبق، يمكن القول بأن التقسيم الأدق لمجال اللغويات أن نقول بأن النحو والصرف وعلم الأصوات والصوتيات إلخ هي أحق بوصف «اللغويات التجريدية» (Abstract Linguistics) أو «اللغويات الجوهرية» (Core Linguistics) أو «اللغويات الإداركية» (Cognitive Linguistics) أو ما يُشبه هذه التسميات إن كان ثمة تسميات بديلة أفضل منها، وذلك لكون هذه الفروع تهتم بقضايا التصور المعرفي الإدراكي للغة كآلة مجردة. وعلى هذا نسمي بقية الفروع من لغويات تطبيقية واجتماعية وترجمة ... إلخ بـ «اللغويات التمثيلية» (Representational Linguistics) (وهي عكس التجريدية) أو «اللغويات الطرفية» (Peripheral Linguistics) (وهي عكس الجوهرية) أو «اللغويات الفيزيقية» (Physical Linguistics) (وهي عكس الإدراكية) أو ما يشبه هذه التسميات إن كان ثمة تسميات بديلة أفضل منها.
لماذا النحو والصرف وعلم الأصوات ... إلخ لغويات «جوهرية» (Core) وغيرها طرفية؟ لأن أول اهتمام بمجال اللغة واللغويات جاء من خلال هذه العلوم، فكل المدارس القديمة والمتأخرة بدأت من جوهر اللغة كنحو وصرف. ولماذا هي «تجريدية» (Abstract)؟ لأن هذه العلوم تهتم باللغة كآلة إنتاجية مجرّدة في الذهن، ولماذا «إداركية» (Cognitive)؟ لأنها تهتم بالإدراك المعرفي والتصور الذهني للغة.
في المقابل، لماذا اللغويات التطبيقية والاجتماعية والترجمة والتخطيط اللغوي السياسي إلخ لغويات «تمثيلية» (Representational)؟ لأنها فروع تناقش كيف «تتمثل» اللغة في المجتمع والتدريس والثقافة والسياسة ... إلخ. ولماذا هي لغويات «طرفية» (Peripheral)؟ لأنها فروع لا تُعنى بجوهر اللغة الأساس، فلا تعلمنا شيئًا عن اللغة كآلة منتجة بقدر ما تعلمنا عن كيفية «استخدام اللغة» (Language Use) في سياقات مختلفة. ولماذا هي لغويات «فيزيقية» (Physical) لأنها تعنى باللغة كتمظهر ملموس، فاللغة في السياق الاجتماعي والسياسي متمظهرة بشكل واضح، فيما أنها على المستوى الذهني الإدراكي غير واضحة المعالم.
بهذا يمكن أن نُجمل القول، فنقول بأن اللغويات المجردة أو الجوهرية أو الإدراكية تشمل الفروع التالية: «النحو والصرف» (Syntax/Morphology) كونها فروع معنية بطريقة «إنتاج» (Production) أو بلفظ أدق «توليد» (Generation) التراكيب المجردة الخالية من الصوت والمعنى، والتي ينتجها الدماغ أو الآلة الذهنية اللغوية؛ كما تشمل كذلك «علم الأصوات والصوتيات» (Phonology/Phonetics) كون هذه الفروع تُعنى بكيفية «ملاحظة» (Perception) هذه التراكيب المجردة على المستوى الصوتي أو بكيفية منحها «الصيغة الصوتية» (Phonetic Form) بحسب أنموذج تشومسكي التوليدي، وتشمل أيضًا «علم الدلالة والتداولية» كون هذه الفروع معنية بطريقة «تحليل» (Processing) معاني هذه التراكيب المجردة ومنحها «الصيغة المنطقية/الدلالية» (Logical Form) بحسب الأنموذج السابق ذكره، وكذلك يمكن إدخال كل فرع يُعنى بنقاش اللغة كآلة إنتاجية مجرّدة كـ «اللغويات العصبية» (Neurolinguistics) أو حتى فرع «اكتساب اللغة» (Language Acquisition) كون هذا الفرع يُعنى بطريقة اكتساب اللغة الأصلية الأم كآلة ذهنية غير ملموسة. وكل ما هو خلاف هذا، فهو داخل ضمن فرع مختلف آخر يمكن تسميته باللغويات التمثيلية أو الطرفية أو الفيزيقية.
** **
أ.د. متعب بن عالي القرني - جامعة الملك خالد