د.عبدالرحيم محمود جاموس
فلسطين أرضاً وشعباً، ما زالت ضحية ثالوث ما يصطلح عليه بمصطلحات ثلاثة، دخلت إلى قاموس اللغة العربية، وقاموس السياسة الفلسطينية والعربية والدولية والمتمثلة في (مصطلح النكبة، مصطلح النكسة، مصطلح الانقسام)..!
خمسة وسبعون عاما تقريبا قد مرت على النكبة الفلسطينية في عام 1948م وما نتج عنها من تشريد لثلثي أبناء الشعب الفلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين داخل ما تبقى من فلسطين وخارجها في دول الجوار، واللاجئين الفلسطينيين ما زالوا إلى اليوم، يحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي هجروا منها وقواشين ممتلكاتهم من أراض وعقارات قد اغتصبت وصودرت منهم عنوة بقوة السلاح، واقتلعوا منها بالحديد والنار وبالمجازر الهمجية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في المدن والقرى الفلسطينية، المدعومة من الاستعمار البريطاني خاصة والغرب العنصري الاستعماري بصفة عامة، رغم كل ذلك ما زال اللاجئون الفلسطينيون يتمسكون بحقهم في العودة إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها وإلى بيوتهم وأراضيهم التي خلفوها وراءهم سنة 1948م.
عندما غادروها كانوا يعتقدون أنها مجرد أيام معدودات ويعودون إليها، بعد أن رفضوا ومعهم اشقاؤهم العرب ما عرف بقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947م الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/ 11/ 1947م، في حين اعلنت العصابات الصهيونية قيام (دولة إسرائيل) (في الوقت الذي اعلنت فيه الدولة المنتدبة بريطانيا انهاء انتدابها واستعمارها على فلسطين في 15/ 5/ 1948م)، بعدها انتظر الفلسطينيون دخول الجيوش العربية الشقيقة لمساعدتهم والتي اعلنت الحرب حينها من أجل تحرير فلسطين من العصابات الصهيونية ومنع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وتمكينهم من العودة إلى ديارهم، وقد دخلت فعلا سبعة جيوش عربية بأسلحة متواضعة غير متوازنة عددا وعدة مع ما كانت تمتلكه وتتوافر عليه العصابات الصهيونية من أسلحة متطورة، فقد كان إجمالي عدد الجيوش العربية السبعة لا يتعدى أربعة وعشرين ألف عسكري وبدون قيادة موحدة حيث كان يقود الجيش العربي الأردني الضابط الإنجليزي جلوب باشا كما كان يسمى، ويساعده ستة وأربعون ضابطا إنجليزيا أيضا، في حين كان عدد المنخرطين من الصهاينة في العصابات العسكرية الإرهابية ما يزيد على مائة وعشرين ألف عسكري إرهابي ذا خبرة وتدريب عسكري عال، ويتوافرون على تدريب وتسليح عسكري يتفوق على الجيوش العربية مجتمعة، من المؤكد في مثل هذه الظروف والأوضاع المأساوية للأسف أن تكون النتيجة هي الهزيمة النكراء وأن تحلَّ النكبة على الشعب الفلسطيني (أرضاً وشعباً) ولم تتمكن إذا هذه الجيوش العربية السبعة من هزيمة العصابات الصهيونية، التي استطاعت أن تسيطر وتحتل ما يساوي أكثر من 78 % من مساحة فلسطين الجغرافية متجاوزة بذلك حدود النسبة التي كان قد حددها وقررها لها قرار التقسيم رقم 181 المشار إليه أعلاه، وهي نسبة 54 % من مساحة جغرافية فلسطين، وقد وُقعت على أثرها اتفاقات الهدنة العربية الإسرائيلية لترسيم حدود الكيان الصهيوني الوليد على اأساسها فيما بعد.
رغم ذلك بقي الأمل عند الفلسطيني بالعودة قائما ويكبر يوما بعد يوم وفق القرار الأممي رقم 194 لسنة 1948م القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم التي اقتلعوا وشردوا منها، كما بقي الأمل لديه ينمو وقائما بإزالة الكيان الصهيوني يوما ما قادما لا محالة، وإقامة كيانه الفلسطيني المستقل على كامل التراب الوطني الفلسطيني.
لكن الواقع العربي كان يسير عكس هذه الآمال والأمنيات الفلسطينية والعربية، فوقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م بمشاركة بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني، والذي أدى إلى احتلال قطاع غزة وسيناء، وقد انتهى بعد ستةِ شهور بإنسحاب القوات الغازية من سيناء وقطاع غزة، ومع ذلك بقي الأمل الفلسطيني والعربي قائما حين تستعد الجيوش العربية من جديد لمعركة التحرير الفاصلة، لكن الطامة الكبرى والتي سميت بالنكسة حين وقعت حرب الخامس من حزيران للعام 1967م والتي انتهت بكارثة فلسطينية وعربية كبرى، نتج عنها إحتلال ما تبقى من أرض فلسطين (قطاع غزة والضفة الغربية والحمة) وشبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، لتتضاعف مساحة الكيان الصهيوني خمس مرات عما كانت عليه، وسميت هذه النتيجة نكسة عربية تمييزا لها عن نكبة عام 1948م، عندها تصاعدت الثورة الفلسطينية التي كانت قد انطلقت في الأول من يناير عام 1965م على يد حركة فتح لتلتحق بها فصائل وطنية فلسطينية متعددة من مختلف ألوان الطيف السياسي، هكذا يمر اليوم على النكسة الحزيرانية تقريبا ستة وخمسون عاما، ليعلن العرب بعدها في قمة الخرطوم العربية لاآتهم الثلاثة (لا صلح ولا. اعتراف، ولا مفاوضات)، وما تبع النكسة من مقاومة شعبية ونضال وكفاح فلسطيني وعربي بأشكال وأساليب مختلفة، توجت بحرب أكتوبر للعام 1973م ورغم ما أنجزته عسكريا.. ليبدأ بعد كل ذلك مسلسل جديد في إدارة الصراع يرتكز على أسلوب (المفاوضات الانفرادية المباشرة) التي أدت إلى توقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر، ومن ثم اتفاق أوسلو مع م.ت.ف، واتفاق وادي عربة مع الأردن.. وفي الآونة الأخيرة بدأ مسلسل التطبيع العربي، وقد شمل توقيع أربع دول عربية لإتفاقات تطبيعية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وبقي الفلسطيني رغم ذلك يحلم بالعودة إلى وطنه ويحلم بإقامة كيانه المستقل وعاصمته القدس..
هذا المسلسل من النكبات والنكسات الفلسطينية والعربية، والتراجع في المواقف، وسوء الإدارة للصراع من الجانب العربي والفلسطيني، واكبه بإستمرار تفوق الكيان الصهيوني وداعميه وحلفائه عسكريا وأمنيا...
ليأتي الانقسام الفلسطيني الناتج عن انقلاب حركة حماس الحزيراني في 15/ 6/ 2007م والذي يكون قد مرَّ عليه اليوم تقريبا ستة عشر عاما ليمثل الضربة القاسمة للمشروع الوطني الفلسطيني المرحلي... أو في حده الأدنى، ويتوج ويتزاوج مع مسلسل النكبات والنكسات والتراجعات، ويمثل الركن الثالث في أركان ثالوث النكبات والنكسات الفلسطينية والعربية في مواجهة المستعمرة الإسرائيلية، التي جعلت من فلسطين أرضا وشعبا ضحيتها المستمرة ونكبتها ونكستها الكبرى، وتبعد أمل العودة والتحرير الملازمين للإنسان الفلسطيني عقيدة وممارسة لا يحيد عنهما، منذ بدايات القضية إلى اليوم والى سنوات وربما إلى عقود أخرى، هكذا تتشكل وتتحور النكبة والنكسة والقضية الفلسطينية... بفعل القوى الصهيونية وحلفائها من القوى الاستعمارية الغربية من جهة وبفعل التراجع وسوء الإستعداد والإدارة للصراع من الجانب العربي والفلسطيني على السواء...
فلا الحروب الكلاسيكية النظامية أو الحروب والانتفاضات الشعبية أدت إلى تحرير فلسطين ولا مكنت اللاجىء الفلسطيني لغاية الآن من حق العودة إلى دياره، ولا مسلسل المفاوضات المباشرة وغير المباشرة قد تمكنت من إنجاز ما اخفقت الحروب في تحقيقه...!
رغم كل هذه المحطات والنكبات والنكسات والتراجعات والنضالات والتضحيات وما حملته من مآس واخفاقات وما حققته من إنجازات قد تكون متواضعة، فإن الشعب الفلسطيني بقي وما زال حقيقة قائمة وماثلة يربو على أربعة عشر مليونا من البشر، أكثر من نصفهم يعيش على أرض فلسطين، ليسوا فائضا بشريا على وطنهم ولا على العالم، حتى يستمر إنكار حقوقهم الثابتة غير القابلة للتصرف من عدوهم وغيره، ولا يجوز أن يترك فريسة لسياسات الكيان الصهيوني وداعميه من قوى الاستعمار الغربي ليواصل مسيرة قضمه لهذه الحقوق قطعة قطعة ومرحلة تلو مرحلة...
على طريق الغائها وقبول الكيان الصهيوني من ثم على صيغته التوسعية والعنصرية الإحلالية... المرفوضة فلسطينيا وعربيا، ويتم كل ذلك للأسف بدعم وغطاء من إدارة الولايات المتحدة الأمريكية منفردة والتي توفر له الدعم المطلق عسكريا وسياسيا وتوفر له الحماية الدولية...
الفلسطينيون اليوم مطالبون بقراءة هذا الواقع السياسي والعسكري الإقليمي والدولي المعقد قراءة فاحصة، على ضوئها يجب أن يتم استخلاص وبناء واعتماد إستراتيجية جديدة توائم هذا التعقيد، أول عناصرها يتمثل في انهاء ما يسمى بالانقسام... الذي تكرسه وترعاه إسرائيل وأطراف دولية، وانجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية ميدانيا ومؤسساتيا في إطار م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ببرنامج متفق عليه وبصيغة تكفل ضم واحتواء جميع القوى والتيارات الوطنية الفلسطينية، في إطار موحد للفعل الوطني في مواجهة المشروع الصهيوني على كل المستويات محليا وعربيا ودوليا، ومقاومة هذا المشروع الصهيوني بكل الوسائل الممكنة والمتاحة.
وأخيراً على الديبلوماسية العربية والفلسطينية ان تنشط وتسعي لخلق جبهة دولية شعبية ورسمية عالمية داعمة للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ومعارضة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وسياساته التوسعية والاستيطانية والعنصرية الاحلالية... المجافية للشرعية الدولية ولأبسط قواعد القانون الدولي..
** **
- عضو المجلس الوطني