د. سعاد درير
في زمن الكفاح لملء أفواه صغار الأرانب، كان يجمعنا شاي وخبز أسود والكثير الكثير من المحبة المنبعثة من قلوب بيضاء لم تُعَكِّرْها بعدُ ألوان النفاق. رحَلَ الاستعمار، ولكن الثوابت الفكرية والاجتماعية التي كبرتْ معنا آلَت إلى الزوال، ولا شيء، لا شيء غير التيه باتت تتخبط فيه أذهان الناس، ليُصَيِّرُوا كل برَكَةٍ عِلَّةً، وكُلَّ أخلاق الأغنياء بسخاء قلوبهم مَذَلَّةً.
ها نحن نَكبر، نَكبر لتَصغر بُطولاتنا الخُلقية، وتتقلَّص أخُوتنا ونخوتنا لتتمدَّدَ أوهام التحضُّر في عيون لم يَعُد يَسعها شيء من الرضا والقناعة، فإذا بازدراء ثوب الفقراء يغدو اهتمام القبيلة وصدر الهام الزاحفين نحو بساط الثراء، وإذا بنظرة التكبر في محيا من لم يعد يصون رابطة الإخاء تمضغ قلباً يتلظى فوق مجمر الأيام التي لا تعترف بوجوده رغم وجوده.
أين المحبة لتعلمنا كيف ننشر الفرح كما كنا نفعل ونحن نلعب يوم كنا صغاراً، صحيح أننا كنا صغاراً، لكننا كنا كباراً بمشاعرنا الخالصة بما يكفي ليُحِبَّ بعضُنا البعضَ الآخر ونُصارع من أجل السلام بيننا وفي ما (ومَنْ) حولنا أيام السموّ الإنساني، والنقاء، لا كما يحدث في أيام التفكك الأسري والاجتماعي والركض بمنطق «الموت للإنسان» و»المجد لغريزة حب البقاء، البقاء للأقوى نفوذا بماله وعلاقاته».
تُخَدِّرُنا الأحلام لنَبيع كل غالٍ بالرخيص، وتُبَنِّجُنا لذةُ الإحساس (الزائل) بالحياة لتُهَيِّجَ فينا مطامع الظلم الجاني على الآخَر رغبة في إنصاف الأنا، ونَمضي، نَمضي أكثر احتقاراً لنفوسنا كلما قَتلْنا طِيبةَ قلبٍ ودعسناها بجبروتنا المعاند لأخلاق الفرسان بكَرَمٍ حاتِمِيّ يُجَنِّدُ العيون والقلوب لإعلاء صوت الحق في الحياة التي لا تَسمح بأن تقتل غيرك ولو بنظرةٍ مزدرية له في غياب معطف الحرير الذي يُعفيه من أن تَرشقه أنتَ أنتَ بالطوب، ولا أقسى من طوب الكلمات. سخاؤنا الروحي يئنّ تحت الثرى، وأمجادنا الأخوية مزَّق الكبْرُ أضلعها الهشة تلك التي تُسَمِّمُها «فضيلةُ» الانتصار للأحقاد في زمن عبيد المال الباقين والمتمددين.
هرِمنا، هرِمنا وفق معايير تُقَاطِع التقدم الزمني، وما أحوج بذرةَ الإنسانية فينا إلى شيء من التربة الصحية التي تُعَجِّلُ بنموها وانبثاق أزهارها التي نتوق إلى ولادتها ولادة طبيعية، لكن هيهات لحُلم الولادة أن يتحقق ما دامت البذرة فاسدة، ومتى؟ في زمن الكفاح لملء أفواه صغار الثعالب.
أعيدونا، أعيدونا إلى سيرتنا الأولى، لًكُم حربكم ولنا حُبُّنا.