د.سالم الكتبي
كتبت منذ أشهر متسائلاً عن مصير حرب أوكرانيا، وهل يمكن أن تتحول هذه الحرب التي يعاني آثارها العالم أجمع، إلى حرب منسية لتنضم إلى قائمة طويلة من الحروب والصراعات المزمنة التي تنتشر في بقاع عدة من العالم من دون أن تشهد أي أفق قريب للحل.
بلاشك أن أحد أبرز أسباب ذلك يكمن في تآكل نفوذ المؤسسات الجماعية الدولية وانحسار دورها بسبب انخراط القوى الفاعلة فيها في صراعات مباشرة وغير مباشرة؛ فبدلاً من أن تكون هذه القوى العنصر الفاعل في حل النزاعات والصراعات تحولت إلى طرف فيها حتى بات من الصعب إيجاد حل لأزمات يلعب فيها «الكبار» الدور الأبرز.
بعض المراقبين يرون أن أزمة أوكرانيا تتحول بالفعل إلى أزمة منسية، على الأقل إعلامياً، لأنها ليست من بين الأزمات التي يمكن نسيانها سياسياً واستراتيجياً، بحكم انخراط قوى دولية كبرى فيها، وبحكم وقوعها في بؤرة صراع نفوذ كبرى حيث نقطة التماس الأكثر حساسية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ما يعني أن تراجع الاهتمام الإعلامي بالأزمة الأوكرانية يمثل استثناءً من الأزمات الأخرى في العالم، فهو ليس دليل تراجع على أولوية الأزمة ومدى إلحاحها على دوائر صنع القرار في العالم.
أسباب تراجع الاهتمام الإعلامي بالأزمة الأوكرانية تقف وراءه أسباب عدة منها عدم وجود تطورات عسكرية فارقة على الصعيد الميداني، فبنك الأهداف لدى الطرفين، الروسي والأوكراني، قد تقلص كثيراً، بعد أن تم استهداف معظم الأهداف التي تقع ضمن النطاق «المسموح» باستهدافه في إطار توافق ضمني على إبقاء الحرب في «حدود» يمكن السيطرة عليها، وبما لا يسمح بتحولها إلى حرب عالمية ثالثة. هناك أيضاً نشوء أزمات وصراعات عسكرية أخرى جذبت انتباه الاعلام الدولي منها الصراع العسكري الذي اشتعل بشكل مفاجىء في السودان، بين الجيش وقوات «الدعم السريع»، وهو الصراع الذي يحظى باهتمام دولي كبير بسبب تعرض رعايا الكثير من الدول للخطر وسط ظروف القتال، ورغبة هذه الدول في إجلاء رعاياها من السودان. وفق ماسبق تبدو طبيعة الإعلام طاغية على الأحداث والتغطيات، حيث يسعى الإعلام بدوره إلى البحث عن الجديد واللقطة الأحدث على المسرح العالمي، وهذا جزء من طبيعة العالم ودوره.
الأحداث في أوكرانيا تمضي عسكرياً وسياسياً ببطء واضح لأسباب عديدة، وهناك محاولات للجيش الأوكراني لشن هجوم مضاد على القوات الروسية لاستعادة بعض المناطق بعد مرور 14 شهراً من الحرب المدمرة، التي تسببت - حتى الآن - في مقتل نحو 200 ألف من بينهم مالا يقل عن 35 ألف جندي بحسب التقديرات الأمريكية، التي تشير أيضاً إلى تشاؤم واضح إزاء نجاح الهجوم الأوكراني المضاد رغم إستمرار تدفق المساعدات العسكرية الغربية. الواقع يقول إن خطط الهجوم الأوكراني المضاد تمثل الفرصة الأخيرة لكييف والغرب على حد سواء للضغط على روسيا، لأن فشل هذا الهجوم يعني أن خيارات أوكرانيا باتت تنحصر في ضرورة التفاوض مع روسيا، مع كل ما ينطوي عليه هذا الموقف من حتمية تقديم تنازلات تفاوضية لموسكو.
باختصار، تحولت الحرب الأوكرانية تدريجياً إلى حرب تعزيز المواقف التفاوضية، وهذا مايدركه طرفا الحرب جيداً، روسيا وحلفاء أوكرانيا من دول حلف الأطلسي، لذلك فإن الحرب باتت تمضي ببطء شديد، وغابت فرص تحقيق نصر عسكري حاسم يجبر أحد الطرفين على التفاوض، فالهجوم العسكري الأخير الذي شنته روسيا في يناير الماضي لم يحقق الأهداف المرجوة، ولاسيما فرض السيطرة الكاملة على باخموت، التي يدور فيها القتال منذ نحو تسعة أشهر، وشهدت تدميراً هائلاً بعد فرار سكانها، بينما لا تزال القوات الأوكرانية تدافع عن نقاط تمركزها الأخيرة في هذه المدينة، وتسعى، بالإضافة لذلك، لشن هجوم «الربيع» المضاد لاستعادة مدينة مليتوبول، لإجبار روسيا على إعادة التفكير في موقفها الإستراتيجي في الحرب.
باخموت وغيرها ليست مجرد أسماء لمدن أوكرانية، بل هي علامات تاريخية وشواهد على صراعات عسكرية تعود إلى قرون مضت، لذلك فالصراع فيها ينطوي على رمزية كبيرة، والهجوم عليها والدفاع عنها يمثل مسألة بالغة الأهمية بالنسبة لكل من روسيا وأوكرانيا على حد سواء.
قناعتي ـ كمراقب ـ أن حرب أوكرانيا لم تتحول إلى حرب منسية سوى على الصعيد الإعلامي الذي ينتظر نقلة نوعية مهمة تعيد الحرب إلى صدارة الإهتمام الإعلامي، ولكن الحرب ستبقى، إستراتيجيًا وعسكرياً وسياسياً، في صدارة أولويات دوائر صنع القرار الكبرى عالمياً لأنها ـ ببساطة ـ إحدى الجولات الحاسمة في صراع النفوذ والهيمنة الدولي وإعادة تشكيل نظام مابعد أوكرانيا.