كنّا نرتب هذا الأسبوع للقاء مع الأستاذة الدكتورة وسمية المنصور لزيارتها في الكويت، فقد وجّهت لنا الدعوة لكي تجمع طالباتها في السعودية مع طالباتها في الكويت، وكانت خطتها أن تعرفنا مع بعض. أغلب طالباتها هن أستاذات جامعيات في الوقت الراهن وبعضهن في طور مناقشة أطروحاتهن للدكتوراه.
لقد فجعنا بخبر رحيلها المفاجيء. صعقت حينما قرأت الخبر في خبر حالة الواتسآب لإحدى صديقاتي من طالباتها، لم أصدق ما قرأت، وصرت أبحث في كل حالات الواتسآب لطالباتها. لقد انهرت وانخفض ضغطي ووجدتني في الإسعاف من هول الصدمة المفاجئة. كانت تربطني بها علاقة أم وبنتها أكثر من أستاذة وطالبتها، وطافت في ذهني كل الصور والمواقف التي عشناها مع بعض. تذكرت «مجموعة وثَّاب أساليب البحث» التي أنشأتها على الواتسآب كي نكون معاً، وعن طريقها نتواصل ونهنىء بعضنا في المناسبات الجميلة. هذه المجموعة شهدت أفراحنا معاً، وهاهي اليوم تشهد نعي صاحبتها.
كم هو مؤلم فراقك يا غاليتي، رجعت للرسائل بيني وبينك، وجدتها للتو مكتوبة فكم هي جميلة وكم هي مؤثرة، استمعت إلى رسائلك الصوتية، صوتك الحنون العذب الهادىء وهو يهتف في أعماق قلبي: «هلا بنيتي حبيبتي.. هلا هلا.. أنا أكون سعيدة جداً بوجودكم، وإذا غبتم عني..ليس لي إلا أن أنتشي بالذكريات وبقعدتكم وأناقتكم وبروحكم الحلوة.. مجرد إطلالة إلى قلبي أجدكم، أنتم أيضاً تضيفون لي. عمرة: تأكّدي أنتم تضيفون لي كثيراً من البهجة، وتضيفون لي إحساساً بالحياة...» رحلتِ ولم يبقَ إلا الذكريات، ففي أوج حزني وانهياري تسلّلتْ إلى قلبي بسمتُك الطاهرة، تلك البسمة المملوءة بالحب والعطاء، ابتسامة أم، وكأني أسمع صوتك الحنون ذلك الصوت الذي طالما انتزعني من آلامي وخيباتي التي لم أبح لك بها من قبل. كنتِ تفهمين بناتك من نظرة خاطفة إلى عيونهن. في لحظة اليأس التي مررت بها يسري إلى مسمعي صوتك وأنتِ تقولين: «أنا ما أخاف من الموت، أنا وصلت إلى هذا العمر وعشت حياتي الجميلة، وسعدت بإنجازاتي، وفرحتي كبيرة بالناس الكثيرين من حولي، الذين يحبونني ويخافون عليّ، أعلم بحبكم لي؛ وهذا يكفيني». كانت هذه الكلمات آخر ما سمعته منكِ أثناء زيارتنا الأخيرة لك في منزلك بالرياض. عدت مراراً لكي أقرأ وأسمع رسائلك وأصغي من جديد إلى ما قلتيه لي وأدركت أن ما سمعته سابقاً كانت دروساً وإشارات داعمة، وهي اليوم كنوز أضاءت دربي وستبقى نوراً وضّاءً لكل مسالكي في الحياة، أنتِ مدرسة الأخلاق. لو تعلمين مدى الحزن الذي استولى على قلبي ولن يزول، ولهذا فإني أستنجد بذكرياتك الخالدة المستوطنة لكياني وروحي.
إنني وأنا أكتب هذه اللحظة تلوح أمامي ابتسامتك، كم هي رقيقة حانية جميلة، تذيب التعب وتمحو الألم وتشرح الصدر وتفتح العقل نحو الجمال والخير والحق. صوتك الجميل يقول لي: «بنتي حبيبتي لا تزعلين، خلتش قوية»، هذه الكلمات طالما سمعتها منك أثناء انكساراتي العاطفية وهزائمي في سجالات الحياة. كنتِ الأم الحاضنة والمربية الفاضلة والمعلمة المتفانية، كنتِ تجمعين طالباتك في دارك العامرة بالعلم والذكر، طالباتك اللاتي حظين بشرف تدريسك لهن، وأخذتِ على عاتقك مهمة تقريبهن من بعضهن البعض بالحب والوفاء والعلم. كنت تحلمين أن نلقَ طالباتك وبناتك في الكويت الحبيبة اللاتي كنتِ تتحدثين عنهن بكل حب وفخر وسعادة. نحن اليوم جميعاً نتمنى أن الخبر الذي اغتال بهجتنا كان مجرد كابوس كاذب سنفيق منه ونراك أمامنا رأي العين، لكن هيهات هيهات يا حبيبتي وأستاذتي الغالية «ماما وسمية» هذا الاسم الذي طلبتِ منا أن نناديك به دون ذكر لقب دكتورة، حتى نشعر بقربنا من بعض، وكنتِ تفرحين بذلك. كنتِ بحقّ أُمّنا جميعاً والصديقة القريبة والأستاذة المعلمة، نهلنا من علمك الجليل واكتسبنا من معارفك الواسعة التي يجمعها التجدّد والتميّز وتتلوّن بألوان الجمال والسعادة. تعلّمنا من خبراتك الطويلة، وأفدنا من دروسك المثرية وعملنا بنصائحك التي تُعدّ حكماً رزينة مدروسة. كلماتك كانت نبراس الجمال، فما إن تتحدثي حتى أتمنى أن يستمر حديثك ولا ينقطع. كم هي رائعة تلك الكلمات الملهمة، ترمم العثرات وتبني آمالاً وتنتج ثماراً بهيّة يانعة. يشهد الله أنك فريدة في كل شيء رائع وجميل. برحيلك فقدتُ حباً حقيقاً، أنتِ رمزُ الحب ورمز الوفاء والعطاء، يا مدرسة مشرقة بجليل الخلق وبمنهج العمل، ويا أستاذة في حب العلم وطلبه بإخلاص، يا مانحة الناس من حولك الحب والسلام، يا صادقة المشاعر وعزيزة النفس وكريمة السجايا؛ أعزي نفسي وأعزي كل من عرفكِ وأعزي زوجك الفاضل الأستاذ الدكتور إبراهيم الشمسان الذي طالما حدثتينا عن محبتك وعشقك له ومدى إخلاصه وصدقه باعتباره نموذجاً إنسانياً نادراً، وأعزي أبناءك الكرام د. أوس والأستاذ بدر، وكريمتيك ديمة وبدور، وصديقاتي زوجات أبنائك وكل عائلتكم الكريمة. كما أعزي جامعة الملك سعود والأوساط العلمية وبلادنا بأكملها لفقدان هذه القامة العلمية الشامخة في علوم اللغة وآدابها.
لقد شعر من حولي بما أعانيه من مأساة فصار الجميع -حتى من لم يلتقيكِ من أقاربي وصديقاتي- يواسيني في فقدك ويترحم عليك ويدعو لكِ بجناتٍ عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين؛ فأنت محبوبة الجميع صاحبة النفس التقيّة النقيّة الطاهرة... وداعاً ماما وسمية..
** **
- عمرة بنت ثاري الرشيدي