د. تنيضب الفايدي
الأبرق عبارة عن جبل من رمل وحجارة وطين مختلطة، والجمع الأبارق، تراها من مسافات بعيدة، ثم ينسب إلى ما حوله من معالم للتقريب، فيقال أبرق الربذة لقربه من الربذة، وأبرق اللعباء لقربه من نفود اللعباء، وأبرق العزّاف لوجود صوت يشبه عزف (الموسيقية)، وهكذا أبرق الحنان، وأبرق مازن، وأبرق عَمران، وأبرق ضَيحان، وأبرق الوضَّاح، وغيرها من الأبارق. وتسمّى أيضاً أبرقية وبرقة (ثهمد). أما العزّاف، فالعزيف هو صوت الرمال إذا هبّت بها الرياح، وعزفُ الرياح: أصواتها، والعزف والعزيف: صوتٌ في الرمل لا يُدرى ما هو، والعرب تجعل العزيف أصوات الجن، وقيل: هو صوت يُسمع بالليل كالطبل. وتلك الأصوات لها تفسير علمي يعرفه كثير من الناس، فهي تخرج من الجبال الرملية في الجوّ بين فترة وأخرى، لكن توهّم البعض بأنها صوت الجنّ.
أما أبرق العزّاف، فيقع شرق مدينة الحناكية (ذات نخل)، واقترب منه طريق المدينة والقصيم حالياً، سمي أبرق العزّاف - كما يُقال - يسمع في بعض الليالي صوت عزف يشبه صوت الآلات الموسيقية. يقول الحموي في معجم البلدان (1/ 89): «بفتح العين المهملة وتشديد الزاي وألف وفاء: هو ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة مشهور، ذكر في أخبارهم، وهو في طريق القاصد إلى المدينة من البصرة يجاء من حومانة الدّرّاج إليه، ومنه إلى بطن نخل ثم الطّرف ثم المدينة. قالوا: وإنما سمّي العزّاف؛ لأنهم يسمعون فيه عزيف الجنّ، قال حسّان بن ثابت:
طوى أبرق العزّاف يرعد متنه
حنين المتالي فوق ظهر المشايع
قال ابن كيسان: أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد لرجل يهجو بني سعيد بن قتيبة الباهلي:
أبني سعيد! إنكم من معشر
لا يعرفون كرامة الأضياف
قوم لباهلة بن أعصر، إن هم
غضبوا، حسبتهم لعبد مناف
قرنوا الغداء إلى العشاء، وقرّبوا
زادا، لعمر أبيك، ليس بكاف
وكأنني، لما حططت إليهم
رحلي، نزلت بأبرق العزّاف
بينا كذاك أتاهم كبراؤهم
يلحون في التبذير والإسراف
وقال أيضاً (4/ 118) عند اسم العزّاف: «وإنما سمي العزّاف؛ لأنّهم يسمعون به عزيف الجنّ وهو صوتهم، وقال السكري: العزّاف من المدينة على اثني عشر ميلاً». وقال البكري (معجم ما استعجم 3/ 940) العزّاف: بفتح أوله وتشديد ثانيه وبالفاء على لفظ فَعّال من العزف: ويقال أبرق العزّاف وأبرق الحنّان: واحد؛ لأنهم يسمعون فيه عزيف الجنّ، قال النابغة:
لا أعرف شيخاً يجر برجله
بين الكثيب فأبرق الحنان
وقال حسان:
لمن الديار والرسوم العوافي
بين ساع فأبرق العزّاف
قال الخليل: «العزّاف رمل لبني سعد، وقال غيره: سميت تلك الرملة أبرق العزّاف؛ لأنّ فيها الجن». وقال ابن منظور في لسان العرب (9/ 244) في مادة (عزف): «العزّاف رمل لبني سعد صفة غالبة مشتق من ذلك ويسمى أبرق العزّاف». وقال الفيروزآبادي في القاموس المحيط (3/ 175) في مادة (عزفت): «والعزف والعزيف صوت الجن، وهو جرس يسمع في المفاوز بالليل، وكشدّاد سحاب فيه عزيف الرعد ورمل لبني سعد أو جبل بالدهناء على اثني عشر ميلاً من المدينة، سمي لأنه كان يسمع به عزيف الجن، وأبرق العزّاف ماء لبني أسد يجاء من حومانة الدراج إليه ومنه إلى بطن نخل ثم الطرف من المدينة».
وقال ابن بلهيد عن الهضبة (صحيح الأخبار 5/ 60) ما يلي: «... وفيهم من يقول له ( أبرق العزّاف) فسألت رجلاً من أعراب تلك الناحية، ألم تكتفوا بتسمية هذا القوز بقوز اللعباء؟ فلم تسمونه العزّاف؟ فقال: هل تعرف أن العزف أصوات الجن؟ فقلت: وهل في هذا الموضع جن؟».
والعرب تقول بأن بأبرق العزّاف من الجنّ أكثر من ربيعة ومضر، ويطلق عليه حالياً القوز، وكم مرّ الكاتب بجواره ولكن نهاراً، لذا لم يسمع العزف ليلاً (في بعض الليالي) كما يقولون.
وقد ورد أن كعباً وبجيراً ابنا زهير بن أبي سُلمى كانا يرعيان الغنم في أبرق العزّاف وعندما سمعا بخبر النبي صلى الله عليه وسلم أرسل كعبٌ أخاه بجيراً ليعرف أمر محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة، فلما وصل بجير إلى المدينة، أسلم، وكتب إلى أخيه بذلك، فكتب إليه كعبٌ شعراً يذمه لتركه دين أجداده، ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطلع بجيرٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشعر، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، وبعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة الطائف، أرسل بجير إلى أخيه يحذّره وينذره، ويطلب منه القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً فقدم كعبٌ المدينة متخفياً، ونزل على صاحب له، فأوصله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلن إسلامه، وأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته «بانت سعاد».
بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
متيمٌ إثرها لم يفْدَ مكبولُ
وما سعاد غداة البينِ إذ رحلوا
إلا أغنُّ غضيضُ الطرفِ مكحولُ
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول
شُجَّتْ بِذي شَبَمٍ مِنْ ماءِ مَحْنِيةٍ
صافٍ بأَبْطَحَ أضْحَى وهْو مَشْمولُ
إنَّ الرَّسُولَ لَنورٌ يُسْتَضاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ
في فِتْيَةٍ مِنْ قُريْشٍ قالَ قائِلُهُمْ
بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا
ويُقال إنه لما أنشد رسول الله قصيدته أعطاه بردته، وهي التي صارت إلى الخلفاء. السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 487)، قال ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 373): «من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد ارتضيه فالله أعلم». وللكاتب ذكريات مع بعض تلك الأبارق، ولاسيّما أبرق العزّاف وأبرق الحنّان بـ(بدر).