رضا إبراهيم
لا شك في أن الصورة الفوتوغرافية أصبحت حالياً سمة أساسية أكثر من أي وقت مضى، لأنها لغة عالمية، فهي لا تحتاج إلى ترجمة أو إيضاح، ما يعني هيمنتها وسيادتها، وباتت الصورة الفوتوغرافية من أهم أدوات عصر المعرفة والثقافة والاقتصاد والسياسة.. إلخ، كما تحولت الصورة الفوتوغرافية من الهامش إلى المركز، ومن الحضور الجزئي إلى الكلي.
وتختلف الصورة عن الكلمة المكتوبة في التلقي، لاحتياج القراءة في أحيانٍ كثيرة إلى التأمل وإشغال الذهن بشكل كبير، بينما الصورة باتت على العكس من ذلك تماماً، فهي لا تحتاج جهداً كبيراً لزوم تلقيها، كما تختلف الصورة عن النص المكتوب، الذي يتطلب تفكيك العلاقات القائمة بين الكلمات بجهد وتركيز أعلى وبطء شديد، بينما الصورة الفوتوغرافية تعطي الرسالة دفعة واحدة، وتأكيداً على ذلك ظهر المثل القائل (إن الصورة تساوي ألف كلمة)، ويرجع استخدام الصورة لتسجيل الوقائع القومية كالمعارك أو الحروب، إلى ما قبل التقويم الميلادي.
فهناك على سبيل المثال ألواح طينية، تم العثور عليها منذ عهد «الإمبراطورية الأشورية» كانت معلقة على الجدران ومنقوش عليها المعارك البطولية والملاحم الحربية المستعرة التي خاضوها مع جيرانهم من الأعداء، كما وضعت أيضاً سجلات مصورة داخل القصور، وكلها كانت تحتوي على حملات الملوك الأشوريين، والمسجلة على قوالب من الطين والمغطاة بمادة السيراميك، وثُبِّتت على الأعمدة الحجرية، وكان الغرض الأساسي منها استعراض قوة وسطوة الأشوريين، وإظهارها أثناء القيام بتأدية مهامها وأعمالها القتالية، واعتبارها أيضاً قوة لا يمكن التصدي لها أبداً، أو مقاومتها أو الوقوف أمامها.
وقد علق فيلسوف اليونان الشهير أرسطو (384 - 322 ق.م) على تأثير الصورة في الفكر والأذهان بقوله (إن التفكير مستحيل دون صور، دون خيال)، وفي ذات الوقت تجلت سلطة الصورة باعتبارها الغائب الحاضر في أحداث كثيرة، وعلى حسب تأكيدات نفرٍ من خبراء علم النفس فإن نحو (80) بالمائة من معارف الإنسان، تأتي فقط عن طريق حاسة البصر، فبحكم طبيعتها يتعرف البشر على الصور، بشكل أفضل من تعرفهم على النصوص، كما أظهرت الدراسات العلمية صحة ذلك القول، فوفقاً لدراسة قامت بها (الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم) تمكن المشاركون من التعرف على أكثر من (2000) صورة، من خلال الذاكرة فقط، بدقة لا تقل عن (90) بالمائة.
ومع تطور التقنية بالعصر الحديث، باتت عملية اختيار الصورة الفوتوغرافية، تهدف لإرسال رسالة بعينها، أو بث معنى محدد، ويمكن أن تكون الرسالة محاولة لتشويه الحقائق، أو تقليلها أو إخفائها كلياً، كما أن الصورة ليست محايدة، علماً بأن أساسها التحيز في أحيانٍ كثيرة، والصورة لها من القدرات (الدرامية المصَّنعة) ما يجعلها قادرة على مواربة ذلك التحيز، والمعلوم أن قراءة الصور الفوتوغرافية عند الأفراد الأميين، تختلف تماماً حالة قراءتها عند أولئك المتعلمين أو المثقفين، لأن الأميين يكتفون دوماً بالمتعة البصرية فقط، بينما يحاول المثقفون الوصول إلى تلك المعاني الكامنة خلف الصور الفوتوغرافية.
وقد تمكنت الصورة الفوتوغرافية من أن تصبح عنصراً أساسياً لتشكيل شخصية الفرد، وهي حرب تُعرف بـ (حرب الصورة)، وهناك بعض المعارك حسمتها حرب الصور الفوتوغرافية، قبل البدء باستخدام الجنود والآليات والأسلحة، مثل ما عملت عليه الصورة الفوتوغرافية من أسباب هيأت من خلاله الرأي العام بدول غربية كثيرة قبيل غزو العراق عام 2003م، كما كان التصوير الفوتوغرافي منذ بدايته وإلى حد ما حتى اليوم، وسيلة ثورية للاتصال، علماً بأن التقاط الصور الفوتوغرافية وتسجيل وإبراز الواقع عبر وسائل الإعلام، ليس بالأمر السهل ولا بالشيء المعطى.
لذلك يحتاج المصورون أنفسهم اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى الدفاع عن دورهم وكرامتهم المهنية، من خلال رفض أن يصبحوا أجهزة تنفيذية، لمن لديهم مصالح في السيطرة على وسائل الإعلام، بهدف التلاعب بالرأي العام، إذ إن المصورين هم أفراد مخلصون وعاطفيون، وأحياناً يكونوا (نصف مجانين)، وعلى أتم استعداد للتضحية بحياتهم في أحيان كثيرة بالمعنى الحرفي للكلمة، لإظهار ما يجب رؤيته وما يجب معرفته، والملاحظ أنه في نهاية القرن التاسع عشر، وبفضل تقنية الصور المحسنة بشكل ملحوظ واختراع طباعة الصور، انطلقت إمكانات الاتصال الجماهيري للتصوير الفوتوغرافي.
فقد أظهرت أول صورة نشرت في شهر مارس عام 1880م بصحيفة (ديلي غرافيكس أوف نيويورك) بشكل مميز، دورها المستقبلي في التصوير الصحفي، ومع ذلك فقد استغرق الأمر سنوات عديدة من إتقان هذه التقنية، لربط الصورة بالصحافة، لتقديم دورها المهم في الاتصال الجماهيري، علماً بأن أول من استخدم التصوير باعتبارها وسيلة للتوثيق والنقد الاجتماعي، لم يكن مصوراً فوتوغرافياً، بل كان صحفياً في صحيفة «نيويورك تريبيون» وهو جاكوب ريزي الذي أرفق مقالاته حول ظروف الحياة البائسة للمهاجرين بالأحياء الفقيرة بمدينة «نيويورك» عبر صور فوتوغرافية، تؤكد مزاعمه عن الظروف السائدة وقتها.
حيث عمل ريزي على تأليف كتاب تحت عنوان «كيف يعيش النصف الآخر» الذي نُشر عام 1890م وأحدث ضجة كبيرة هزت المجتمع الأمريكي فعلياً، وكانت تلك الضجة أساسها الصور الموجودة بمؤلفه بجانب الوثائق أيضاً، وبعد بضع سنوات وفي بداية القرن العشرين التقط عالم الاجتماع والمصور الأمريكي لويس هاين (1874 - 1940م) صوراً للعديد من الأطفال وهم يعملون نحو (12) اثنتي عشرة ساعة يومياً في المصانع والحقول، وهذه الصور المنشورة بكتابه عن الموضوع ذي الصلة لم تهز المجتمع فقط، بل تسببت أيضاً في تحسين وتغيير تشريعات العمل للأولاد القصر.
وفي كثير من الأحيان دعمت صور هاين الضغط الذي قام به (المركز الوطني لمكافحة عمالة الأطفال) ونتج عن ذلك الضغط إنشاء مكتب الأطفال عام 1912م، ووضع قانون حدد معايير العمل العادلة، نهاية لعمالة الأطفال في الولايات المتحدة، وفي الفترة التي ما بين عامي (1904 - 1909م) قام هاين بتصوير آلاف من المهاجرين القادمين لميناء نيويورك، الذين كانوا يصلون كل يوم، حيث التقط أكثر من (200) صورة فوتوغرافية، مدركاً بحسه الاجتماعي أن التصوير الوثائقي، يمكن استخدامه كأداة للتغيير الاجتماعي والإصلاح.
ما يعني أن التصوير الفوتوغرافي بات أداة للاتصال الجماهيري منذ خطواته الأولى، كونه أسس الأدوار الأساسية في تسجيل الأحداث التاريخية العظيمة، وتوثيق البحوث الاجتماعية والصحفية، والتأثير بشكل ديناميكي على تعبئة الرأي العام، نحو الإصلاحات الاجتماعية والتشريعية.
وكانت بداية التصوير في وسائل الاتصال الجماهيرية، من قبل المصورين غير المحترفين قائمة على الثورية، وأظهرت قدرة تلك الوسيلة على إبراز القضايا الاجتماعية الكبرى، والدفاع عن الشرائح الاجتماعية الضعيفة والمضطهدة، وتعزيز الوعي الاجتماعي، والمساهمة في إرساء العدالة الاجتماعية والإصلاحات التقدمية، ومع ظهور وتطور التصوير الفوتوغرافي على نطاق واسع في مجال الصحافة، شق صحفيو الصور المحترفون تاريخهم في وسائل الإعلام، ومع اتباع التقارير المصورة التي ازدهرت في النصف الأول من القرن الماضي، نفس الطريق الذي سلكته الصحافة، فمن ناحية بذلت مع إنكار الذات والنزاهة المهنية والكرامة والنضال، ومن ناحية أخرى قدمت تقارير دقيقة وصحيحة.
وعبر عقود زمنية طويلة، استخدم التصوير الفوتوغرافي لتوثيق التاريخ وبناء الموروثات، والتقاط جمال العالم المتغير، ويمكن تجميع الصور التاريخية رغم قلتها، لتتبع التغييرات في الأحداث والأشخاص والأماكن، وبمرور الوقت نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في تحويل التصوير الفوتوغرافي إلى مسابقة شعبية، مع السعي وراء ردود الفعل والمشاركات، التي يُنظر إليها على أنها أكثر أهمية من السعي وراء الجمال أو العدالة، أو حتى التوثيق البسيط.
والتصوير على اختلاف أنواعه وأشكاله في وسائل الإعلام، بات أمراً ضرورياً وحتمياً في أي عمل إعلامي، لما له من خواص متعددة في الإبهار واستقطاب وإحداث التأثير في المتلقي، إذ إن الجزء الأكبر من الصحف والمجلات والنشرات وغيرها من الوسائل الإعلامية، باتت تعتمد أساساً على ما تحمله اللقطة الفوتوغرافية من قدرات تأثيرية في القارئ، لتحقق النجاح والانتشار، ومن الصعب جداً تخيل عدم احتواء الصحف على صور فوتوغرافية، فهي بذلك قد تصبح صحفاً مملة غير مرغوب فيها، لما يبعثه شكل تلك الصحف عامة من غموض ورتابة وترهل.
والتصوير الفوتوغرافي هنا ليس فقط طوراً للعمل الإعلامي، ونشره بالطريقة التي نلاحظها الآن، لكنها تطورت حالياً إزاء الإعلام ودوره الهام، ومن غير الدور الذي شغله الإعلام من خلال استخدام التصوير الفوتوغرافي، لما بات التصوير متطوراً لتلك الحدود التي نراها حالياً، ما يعني أن الصورة مثلما حفزت الإعلام، كان للإعلام نفس الدور في تحفيز عملية التصوير الفوتوغرافي وجعلها متقدمة، نظراً لما يحتاجه الإعلام من كم هائل من اللقطات الفوتوغرافية، سواءً فيما يخص الموضوعات الصحفية أو الأخبار.