الصمت وُجْهَةُ المبدع الأولى، فمنه ينطلق في رحلته الذهنية إلى الفضاءات التي تأسره، وفيه تتخلق الأسئلة الكبرى حول حيرته، لتقود مسيرة إلهامه خطوة بخطوة نحو عوالم الإبداع.
فوراء كل فكرة مشعة لحظات من الصمت العميق يخلو فيها المبدع بذاته، ويسلط ضوء التأمل على بارقتها البعيدة، فيظل يرسم كل ما يدنو إلى بصيرته من شذرات ملامحها، حتى تتجلى.
وإذا كان الصمت مُعتَزَلاً لخلق الإبداع في شتى الفنون فإنه في قصيدة الهايكو يعد ثيمة يُحَاكُ منها نسيج النص، وسمة تتقاطع فيها أشهر نماذجه، ومن كتاب الهايكو العرب الذين تتناسل دلالات نصوصهم من رحم الصمت الأديبة الجزائرية/ عنفوان فؤاد.
إن الصمت في نصوص عنفوان يتجاوز أحيانا كونه ثيمة ليغدو جوهرا تنبني عليه الأسطر الثلاثة، فتبدو للقارئ وكأنها تشي بسر من أسرار طقوسها التأملية، تقول:
«صمت عظيم
فجأة
تمر من أمامي سلحفاة»
للوهلة الأولى يظن المتلقي أن عنفوان تخل بمقومات الهايكو في هذا النص، خاصة في سطره الأول حيث تنعت الصمت بالعظمة، إذ اعتدنا في الهايكو ألا نصف من الصمت شيئا سوى مقداره (طويل/قصير)، لكن ثمة دلالة على المقدار بين ثنايا النص تغني عن التطرق إليه في السطر الأول/الكيغو، وتتضح في المسافة التي قطعتها السلحفاة بحركتها البطيئة جدا، فهي إذن بحاجة إلى وصف يتناسب والأثر الذي أحدثه ذلك الصمت داخلها، والحقيقة أن لحظات الصمت التي تغيبك عن محيطك للحد الذي يلهي بصرك عن إدراك جسم يتحرك قبالته مدة طويلة لهي جديرة بأن تكون عظيمة، فالوصف تحت هذه الذريعة يبدو منطقيًّا.
وإلى ذات الهاجس الذي تتولد منه أفكارها، تسلك عنفوان دروبا تعبيرية شتى، مراهنة على رسوخ أقدامها في اللغة وفي المعرفة بالهايكو، فهي تواري مفردة «الصمت» عن نص يتخذ من الصمت عالمه ومعناه ، وينسج من وحي سكونه المشهدية، حيث تقول:
«على الجدار
كل تلك الآثار
تُشاهد من يشاهد»
فثمة حوار غير مسموع في هذا النص لغته النظرات، والكاتبة رغم ذلك لم تؤنسن المنحوتات، فالمعنى السطحي الذي يتبادر إلى الأذهان دون جهد تفسيري أننا عندما ننظر إلى صورة ما نشعر أنها تنظر إلينا، مهما غيرنا زاوية الرؤية، وهو مشهد ملموس، أما بنيته العميقة فتفتح عدة نوافذ للتأويل، لعل أقربها الحوار بين ماضي الحضارة الذي لم يتبقَّ منه سوى آثار جامدة لا تتحرك وبين حاضر بائس يلوذ إلى بقايا ذلك الماضي باحثاً عن قيمة.
وموضوعة الصمت لدى عنفوان لا تكتفي بالالتفاف على العناصر المجاورة لها فحسب، بل تحلق بتأملاتها إلى المجاهيل البعيدة، حيث الفضاء المُطلق واللا متناهي، وحيث الآفاق التي أنهكت فلاسفة العالم تفكيراً منذ أرسطو، فلم يخلفوا سوى التساؤلات والتخمينات، وأعني الكون بغرائبه وأسراره الميتافيزيقية، فقارئها بين حين وحين يصادف نصًّا تكتنفه الحيرة، وترتسم على مشهديته ملامح الدهشة، كقولها:
«على امتداد لا متناهٍ
يتدحرج يتدحرج
قرص الشمس!»
وإن كانت أحيانا تتوق إلى كسر جمود الأشياء وإخراجها من حالة الصمت التي تقيدها عن البوح، لكنها لا تفعل، إنما تعلق أمنيتها على مشجب داخل النص وتغادر، تقول:
«متى تردين بصوتكِ
على أصواتنا
أيتها البئر»
وهذه مختارات من نصوصها:
للبحر -
يجر النهر
الينابيع العذبة
*
بكف مخضبة
تقطف الصبية
ورق الحناء!
*
غير آبه -
يشق منقار الكركي
برتقالة المساء
*
أكل هذا البياض
ظلك
أيها القمر!
*
عند المغيب
مراراً
أدوس على ظلي
** **
- أحمد يحيى القيسي