يعكس الشاعر عبدالأمير خليل مراد في ديوانه «مكابدات الحافي» الصادر حديثًا مسارات عديدة من الحزن والشقاء والآلام والهموم المتعددة، حيث يرسم صورًا حية في أحلام وآمال الشخصيات، ولوحات تتضمن صراعات نفسية داخلية تحتدم مع الوقت. إن الشاعر وهو يستعرض هذه الأشياء والمشاعر المثيرة للأحزان والأشجان ينطلق من قناعاته الفكرية والثقافية محددًا بذلك لحظات الحياة وتفاصيلها المملة.
يستدعي عبد الأمير خليل مراد الكثير من المشاعر وهو يتحدث عن شخصية تراثية اسمها «بشر الحافي» باعتباره شخصية مؤثرة في تاريخ الإسلام والعرب، حيث انقلب من حياة العربدة وظلم الناس إلى حياة الزهد والورع والتقوى حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، وخاصة في الإيثار وتحمل الصعاب؛ وقد سمي بالحافي نظرًا لأنه قطع على نفسه عدم لبس أي نعل، فعاش حافي القدمين. هذه الشخصية المثيرة للجدل التي يستحضرها الشاعر في ديوانه انطلاقًا من عنوانه الموسوم «مكابدات الحافي» وحى في بعض قصائد الديوان كما هو الشأن في القصيدة الثانية التي تحمل عنوان الديوان نفسه، يقول فيها:
أَنَا بِشْرُ الحَافِي
فِي السوْقِ أَقُوْمُ وَأَقْعُدْ
وَدِثَارِيْ أَوْزَارٌ بَالِيَةٌ
ظَمْآنًا أَكْرَعُ مِنْ صَدَفِ البُشْرَى
وَشَقِيًا أَغْرِفُ آمَالاً وَخَطَايَا
لا مَالٌ فِي كَفِّي يَنْصُرُنِي
لا غُرَرٌ فِي رَأْسِي وَوَصَايَا
تَلْقُفُنِي مِنْ بِئْرِ ظُنُوْنِي
وَتُدَحْرِجُنِي كَمَسِيْحٍ فِي حَوْمَاتِ
قِطَافِ.
إن الحديث عن بشر الحافي ومكابداته في الحياة ومع الناس قد فرضت على الشاعر استحضار مواضيع إنسانية عميقة من أجل تحقيق نوع من الصدمة لدى متلقيه، حيث يجعل من بشر الحافي أنموذجًا إنسانيًا لما يجب على المؤمن أن يتحلى به من خصال وقيم إنسانية ومن ضغط على النفس الأمارة بالسوء وكبح الجوارح ومنعها من إسقاط الإنسان في الزلات والأخطاء واتباع الشهوات والملذات التي قد تقوده إلى التهلكة وعقاب الله.
تكمن خصوصية التعبير عن الشخصية المؤثرة على مستوى الفكر والدين والأدب في استحضارها بشكل يخلو من التعمق في حياتها دون معرفة جيدة أو إدراك عميق لتجربتها في الحياة وفي المجتمع. ولا يستحق أي مبدع لقب شاعر إلا إن التقط تفاصيل دقيقة مؤثرة في حياة هذه الشخصية وأسقطها على الواقع، واقعه السياسي والاجتماعي، كما فعل عبد الأمير خليل مراد عندما استدعى شخصية بشر الحافي ليمسرح واقعه العراقي والعربي معًا، ويعيد إحياء سيرة الرجل بيننا بشكل مثير وبلغة صادمة في أحيان كثيرة، يقول:
أَنَا بِشْرُ الحَافِيْ
وَأَدُوْنِيْسُ الشَّرْقِيُّ أَبِيْ
يَتَأَبَّطُنِي قِيْثَارَاتٍ وَفَرَائِدْ
وَكِتَابًا مَسْطُوْرًا مِنْ أَزْمَاااانْ
فِيْ الحَيِّ اللَاتِيْنِيِّ يُهَدْهِدُنِيْ
وَعَلَى نَخْلَاتِ البَصْرَةِ
أَوْ كُوْفَانْ
وَعَنَاقِيْدِيْ مِنْ فِضَّةِ بَابِلَ
مَبْذُوْلَاتٌ فِيْ سِكَكِ
العَشَّارِيْنَ
وَمَقْصُوْرَاتِ السُّلْطَانْ.
تتقاطع حياة بشر الحافي إذن مع العديد من الشعراء في زمننا على العديد من المستويات؛ حياة ملؤها التفكير الممل والشعور بالحزن لما آلت إليه على أيدي طغاة ومستبدين وجهلة لا يعرفون إلا الحديد والنار وتطويع الضعفاء وقليلي الحيلة من أجل السيطرة والتحكم والتملك.
بناء أم هدم
تتعدد أشكال الهدم الفعلي للقيم والأساسات والمدن والدول باسم عناوين غريبة وادعاءات زائفة؛ في حين يغيب البناء، بناء الإنسان والأوطان والعمران أو يكاد يموت. وفي هذا الصدد يظهر لنا في شعر عبد الأمير خليل مراد نوع من الهدم اللغوي، هدم المسلمات والحقائق الزائفة، هدم العناوين المثيرة والمكشوفة، هدم الأشكال المتعددة للكذب والنفاق والاحتيال والنصب، هدم أسس الطغيان والاستبداد المادي والمعنوي... إلى ما هنالك من هدم وتدمير وتقويض للمقولات الجاهزة التي باسمها تتوغل بيننا الأكاذيب والمظالم. يقول في قصيدة «أنبئوني يا بناة العالم»:
أَنْبِئْني يا سقراطُ عن المَقْتُولينَ بِسُمِّ
الدّقَائِقِ السِّرّيةِ في هزائِمِ الزّنْجِ والبُلْقانْ
أَنْبِئني يا همنغواي عن الغَرْقى في أَقْبِيةِ البَحْرِ المَلآنِ
بِالأَحَاجي والألغازْ
أَنْبِئْني يا غسان كنفاني عن المَغْدُورينَ
في المُدُنِ اللامَرْئِيّةْ
أَنْبِئْني يا بوشكين عن الرائِحينَ حَتْفَ أُنُوفِهم قُبَيْلَ
انْبِلاجِ غُبَار المُحَاكَمَةْ
أَنْبِئْني يا بدرُ عن الصَّرْعى بِسِلاحِ الخَدِيْعةِ والنُّكْرانْ
أَنْبِئْني يا طاغورُ كيفَ أرْتَشِفُ الأَناشِيْدَ
الصُّوفيةَ، وأَمُوتُ في صَوْمَعَةِ النِّسْيانْ
أَنْبِئْني يا هرمسُ متى أقْطُفُ ثَمرةَ الشَّهْوةِ
وأَلْتَقِطُ حَبَّةَ النَدَامةِ
أَنْبِئْني يا غاندي وجيفارا وكاسترو ويا أبا عمّار متى أرى
الحريةَ الحمراءَ تَتَبَرَّجُ في ساحاتِ الإعْدامْ
وَتَتَفَجَّرُ في ضَمَائِرِنا
كأزاهيرِ النِّيْلِ والفُرَاتْ
أَنْبِؤوني يا طُغَاةَ العالَمِ ومُرِيْديهِ كيفَ أنامُ وأَصْحُو
وأرى بَنَادِقَنا غَافِيةً في مَشَاجِبِها
بِلا رَصَاصَةٍ أَوْ زِنَادٍ أَهْوَجْ
بشر الحافي، جواد سليم، أبو القاسم الشابي، طرفة بن العبد، أدونيس،... وغيرهم كثير من الرواد القدامي والمحدثين في مجالات الفن والأدب والشعر، يمثلون بالنسبة للشاعر أشكالًا مضيئة في تاريخ الأمة، وصورًا منيرة لثقافتها الرائدة، يمكننا من خلالها، جميعنا، أن نحطّ فوقها ونتكئ عليها دون خوف أو مركب نقص. فبمثل هؤلاء يمكن للمرء أن يشعر بالفخر والاعتزاز بالانتماء، سواء وطنيًا أم قوميًا.
يعبر شعر عبد الأمير خليل مراد عن تجاربه الشخصية وعن قراءاته المتعددة في كتب التراث والرواد، وعن متابعاته المتعددة لما يروج في ساحتنا الثقافية والفنية العربية، حيث يقدم لنا خلاصات هذه القراءات والمتابعات والتجارب شعرًا مفعمًا بالأفكار والمواقف والرؤى تجاه الأشياء والناس والعالم؛ ليبرز شكلٌ جديد للبناء، بناء كل ما هدم بالشعر والكلمة الجميلة المؤثرة وباللغة المُجادلة فكرًا وأدبًا؛ حيث ترشده ذاكرته القوية إلى حد الغاربة، ذاكرة قومية هوياتية لا تتغير أبدًا تستدعي بشكل متسلسل وتنقل للمتلقي صفحات مطبوعة في وجدان الناس بشكل قوي ومؤثر.
تمثل العالم واستعارته
إن فعل تمثل العالم فنيًا، سواء عن طريق الأدب عامة أم عن طريق الشعر خاصة، أم عن طريق الموسيقى أو غيرها من الفنون الأخرى... لا يمكنه أن يتميز كفعل مبدع إلا باعتماده على صياغة رموز وصور معينة تمثل علامة بارزة في تمثل هذا العالم وقراءته قراءة فنية مبدعة. ففكرة هذا التمثل تنطلق من فكرة جوهرية تحدث عنها العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين المسلمين التي استحضروها بشكل واضح من الفكرة الأرسطوطاليسية في محاكاة الطبيعة كنقطة التقاء واشتراك بين الرسم والشعر على الخصوص.
يرتكز الشاعر عبد الأمير خليل مراد في ديوانه على لغة شعرية مفعمة بالأسرار المجازية والبلاغية التي تجعل من التعبير الشعري غطاء جماليًّا لها. إنه يحمل وعاء غنيًا، مليئًا بالأفكار والمواقف والمشاعر الدافئة التي تقي دموع الحب والعشق، وتدفعه إلى التحلي بالشجاعة للتعبير عن مكنوناته وعما يجيش به قلبه ويتسلل إلى ذهنه المتوقد فكرًا وتنويرًا وحرية. فمعجمه الشعري قوي وكبير من خلاله يحاول استعارة العالم وتمثله الخاص له وللناس الذين يعرفهم أو يدرك أهميتهم في قراءة الواقع وتشكيل رؤيته الخاصة له.
يستخدم الشاعر بشكل واضح ومبدع تلك الصور البلاغية القوية التي تستدعي العديد من أشكال الاستعارة للخروج عن المعروف والمألوف في الحياة والعالم الواقعي الذي يعيش فيه، وذلك من أجل تحديد معنى جديد مختلف عن المعنى المفهوم من الجملة الشعرية في كل قصيدة داخل الديوان. ورغم أنه يستخدم نفس اللغة التي يستخدمها أي شاعر آخر، فإن الشاعر يخرج عن هذه القاعدة، فيعمل على استحضار الانزياح اللغوي ليصل في النهاية إلى معنى يحقق الاختلاف عن باقي مستعملي هذه الأدوات اللغوية. فالاستعارة في قوتها الرمزية والإيحائية والدلالية ترتقي إلى مستوى الصورة الإقناعية للمتلقي لشعر عبد الأمير خليل مراد الذي يدرك منذ البداية هذه المسألة، ويعرف جيدًا التأثير الذي يمكن للاستعارة أن تحققه لدى متلقيه الواعي بحقيقة اللغة ودلالتها العميقة.
وفي الأخير نقول إن الشاعر عبد الأمير خلل مراد يراهن في قصائد الديوان على لغته الشعرية الجميلة والمفعمة بالأساليب البلاغية المتنوعة والإشارات من خلال توظيفه للرموز والإيحاءات والصور المتعددة من أجل استشراف آفاق جمالية وفنية مختلفة عن الآخرين. فهي التي تساعده على التعبير عن أفكاره ورؤاه ومشاعره المجسدة لرؤيته للعالم والحياة، والبحث عن المعنى المضمن في هذه الرؤية الخاصة به دون غيره من الشعراء الآخرين.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي