بدأ الحديث يتجدد حول الأندية الأدبية- إبقاء أو إلغاء- وتعددت الطروحات والمناقشات والتجاذبات حولها، والأندية الأدبية- التي باتت تنتشر في أرجاء بلادنا الغالية- هي مؤسسات تحفظ ذاكرة وطنية تمدّ لأكثر من نصف قرن- منها العتيق العريق الذي واكب حركة النهضة ورسم مع غيره مسارات الوعي الثقافي في المجتمع، وأضاء معالم الطريق لمن كان يهوى الأدب والثقافة، والفكر بحماسة دفاقة وحيوية أفاقة، وكان يقوم عليها رجال يحملون ذهناً لا يكل، ولساناً لا يفتر، وطموحاً لا يتقاصر، واعتدادًا لا يتطامن، وقلقاً لا يسكن، حتى ولو غشاهم مظهر الشيخوخة، ورسمت على محياهم روادف السنين تجاعيدها، وللقراء أن يستحضروا العواد وأبو مدين وابن إدريس، وحجاب الحازمي، والحميّد وابن خميس وغيرهم من الرموز.
ومنها الجديد الذي تتراقص في أفيائه عرائس المنى بتقديم خدمة للوطن وتهيئة منبر لصهيل الكلمات.. لكن الأندية الأدبية (جديدها وقديمها) تصفعها اليوم (صباح مساء) نبرات عقوق من نفر تهيأت لهم فرصة البعث والتجديد على فترة من رسل الكلمة، فبدلاً من أن يأخذوا بها لتواصل المسير بمعطيات عصرية، وإمكانات مادية، ودوافع معنوية، أضحت تصارع وتدافع عن نفسها ممن تمترسوا خلف جدر النخبوية أو أستار الشللية، أوتلفعوا بمئزر التعالي على هذه الكيانات، فباتوا (غيرة أو غارة) يرشقونها من علياء أبراجهم بسهام أقلامهم، يتجاذبون حول مشروعية وجودها، وهل أدت دورها على مدار نصف قرن؟ وهل آن لها أن تترجل وتسلم القياد لمنصات أخرى؟ وكلّ هؤلاء أو جلهم لم يكلفوا أنفسهم عناء الوقوف على تضاريس مخرجاتها ومنجزاتها، وأخالهم لو فعلوا سيجدونها سبقت إلى برامج نوعية من مثل ترجمة نتاج كبار النقاد إلى اللغات العالمية وطبعت أكثر من ( 5224) حتى كتابة هذا المقال ونفذت (76) مؤتمراً وملتقى استضاف كبار النقاد والأدباء محلياً وعربياً وعالمياً، وفازت ست عشرة مرة بأفضل مطبوعة في معارض الكتب، وأنفقت 12 مليوناً في جوائز ضخمة على مستوى العالم العربي، كجائزة العواد والثبيتي والقصة والرواية والنقد وغيرها، وقدمت برامج نوعية في السنوات الثلاث الأخيرة ( كإثراء وجليس، وكلنا نقرأ، والحدائق الثقافية...) وأنشأت مجلات نوعية وحلقات حوارية ودورات في الحجاج ومنتديات للفسلفة والفنون البصرية والمسرح، وتعمل بعض الأندية على أكبر مشروع عربي لرصد الأدب الرقمي التفاعلي بمشاركة خبراء من كل قارات العالم، وأسست الأندية 44 لجنة في المحافظات الطرفية التابعة للمدن الكبيرة، ووزعت في جائحة كرونا 18 ألف كتاب تحت برنامج (ثقافتك في بيتك)... وهي تقدم كلّ ذلك بالرغم من شحّ مواردها ( معونة سنوية مليون ريال).
لقد حرص وبذل المسؤولون عنها عبر سنوات جهدهم في توظيف الإمكانات اليسيرة واستجداء رجال الأعمال لتكمل بنيتها التحتية، وتنفذ بعض مشروعاتها الثقافية الريادية، وكان ومازال وسيظل يسيطر على رؤسائها -همّاً وهمّةً- تهيئتها مكاناً للمثقفين وملجأً للمؤلفين، ومساحةً خصبةً لبذر ونثر إبداع المبدعين، ولكلّ أولئك الأدباء والنقاد والشعراء الذين كانت -ومازالت- هذه المؤسسات لحنهم العذب يتشوقون لفعالياتها، ومطبوعاتها ومجلاتها، ومسابقاتها، ودوراتها... وهم يتنقلون بين مناشطها ويغشون ملتقياتها كنحل في روض لا يشم غير الزهر، ولا يتذوق غير الرحيق، ولا يتقيأ إلا ضرباً ترتشفه الأجيال.. سبحان الله ففي مثل غفوة الوسنان تتغير الأحوال، ويتحول من حسبناهم - دهراً - رمزاً للثقافة وأوفياء للكيانات الثقافية (يثقفون) أقلامهم مناجل هدم؛ ليجعلوا من مراتع الأندية واحة مصوحة وقفراً موحشاً، بل إنهم يطفئون كل ومضة من نشاط جاد، ويغطشون كل ليلة مقمرة بفعالية نافعة.. حنانيكم سادة الكلمة وفرسان الحرف وأمناء الثقافة, فأجيالنا وشبابنا تنزف قلوبهم عبرات صامتة وهم يشاهدونكم تعبثون بجسد هذه الأندية النضر لتشوهوه، وتنفثون نحوها ونحو تاريخها ريح الخماسين السموم لتذوي نضارتها, قولوا بربكم هل ستغتبطون ساعة أن تغلق هذه الأندية؟ هل ستسرون حين تسمعون حشرجتها بين غصة الموت وشهقة الروح؟ هل تتوقعون أن يكون لمجتمعنا حضور مستقبلي في تضاريس الثقافة والمعرفة دون أن تكون لدينا كيانات لها جذورها التأريخية نبنيها بسد الخلة وإتمام النقص وشحذ الهمم وتقوية العزائم؟
وللحديث بقية..
** **
أ.د. عبدالله عويقل السلمي - رئيس مجلس إدارة النادي الأدبي الثقافي بجدة.
aanzs@hotmail.com