الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
استعاد الناقد سعيد السريحي اهتماماته الأول بحقل اللغة ومنهجه في النظر إليها بعيداً عن أطر النحو والبلاغة وما تستند عليه من قواعد منطقية أو المقولات العشر والمعروفة بالمقولات الأرسطية وعلى رأسها مقولات الزمان والمكان والكيف والحال وما إليها من مقولات.
انطلق السريحي في محاضرته من مسلمة أولى تؤكد على أن اللغة سابقة في وجودها النحو الذي يهدف إلى سلامة النطق بها والبلاغة التي تحاول سبر غور جمالها، مشيراً إلى أن النحو لم يلبث أن تحول إلى صناعة تجاوزت الغاية الأولى منه والمتمثلة في سلامة الحديث من النطق الذي أحكم قيود التركيب وحدد مآلات التأويل، ولم تلبث علوم البلاغة أن ورثت ما أسسه النحو من قيود فانتهت إلى أطر محددة للتأويل والنظر إلى أسرار الإبداع في اللغة.
وكشف السريحي عن أهمية تحرير اللغة من القيود التي طوقتها بها تلك المعارف والعلوم، مؤكداً أن ذلك من شأنه أن يكشف لنا قيماً جمالية في اللعة لم يتم اكتشافها بعد ومعانيَ حالت تلك العلوم وقوانينها دون الوصول إليها.
وعرض السريحي لأمثلة عديدة من الشعر العربي، وخاصة خلال الحقبة التي سبقت الإسلام، متوقفاً عند شواهد كانت مثار إشكال عند شراح الشعر وعند النحاة قبلهم، ومن ذلك قول طرفة ابن العبد:
كأن حدوج المالكية غدوة
خلايا سفين بالنواصف من ددِ
وذهب السريحي أن جمع «حدج» وتعني الهودج وضع شراح الشعر أمام إشكال تمثل في أن للمالكية التي حدجاً واحداً وليس حدوجاً، ولهذا ذهب الشراح إلى أن الشاعر يقصد «حدوج المالكية وصاحباتها» وعلق السريحي على ذلك قائلاً: كأنما هم بقولهم هذا يرون أن الشاعر أراد شيئاً ولكنه قال شيئاً آخر، أو أنه عجز عن أن يقول ما يريد فقال شيئاً قريباً منه، وأضاف السريحي: إن ما علينا أن نؤمن به هو أن الشاعر قد قال ما قاله كما قاله، وأي إضافة أو تعديل لقوله هو من باب الافتئات عليه والتحريف لما قال، وإن علينا أن نبحث عن المعنى في النص الذي قيل وليس النص بعد تعديله والإضافة إليه أو الحذف منه، ولو أننا سلمنا بأن ما قاله الشاعر هو ما أراده لانتهينا إلى أن الشاعر لم ير في كل تلك الحدوج أحداً سوى المالكية فكأنها هي النساء جميعاً وما من امرأة سواها على النحو الذي رأى فيه متمم بن نويره في القبور قبراً واحداً هو قبر أخيه مالك وذلك حين قال:
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك
كما استشهد السريحي بشواهد أخرى على ما يذهب إليه من أهمية اكتشاف دلالات اللغة بعيداً عن آليات النحو والبلاغة وما سيطر عليها من المنطق.
كان ذلك في محاضرته التي ألقاها مؤخراً في مكتبة عريب بالمدينة المنورة وأدارها د. شتيوي الغيثي.