أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
وُلِد الأديب الساخر (أوسكار وايلد) في عام 1856وقد وصفه أحد كبار النقّاد بأنه «أعظم من أتقن فنّ الحديث، بين كلّ الناطقين باللغة الإنجليزية».
فقد كان دائماً يقول الكلام المناسب في الوقت المناسب، بدلاً من إعمال الفكر في صباح اليوم التالي، وتمنّي لو أنه قال كذا وكذا.
ولم يوجد كاتب آخر نُقل عنه أقوالاً ساخرة مأثورة أكثر منه، فقد قال مثلاً:
«إن الواجب هو ما تتوقّع أداءه من الآخرين»!
«أنا أستطيع أن أقاوم كلّ شيء ما عدا الإغراء»!
«أعتذر عن قبول دعوتك، لما سيترتّب على قبولها من ارتباطات لاحقة»!
إن أحاديث (أوسكار وايلد) لم تكن من طرف واحد، بل كان مُستمِعاً يقظاً وفعّالاً، وابتدع من فنون الحديث ما يقود المحادثة إلى طريق يَستشّف منه أفضل ما في عقول الآخرين، ولم يكن يتطرّق في أحاديثه إلى شؤونه الخاصّة إلا لأصدقائه الحميميّين. لم يكن مُتناقضاً، ولا مُدّعياً بأنه حُجّة في معرفة أيّ موضوع. كان مُراعياً لمشاعر مُحدّثيه، ومُتقبّلاً للسخرية بصدر رحب.
كان (وايلد) يحاسب نفسه على أخطائها بدلاً من طلب العفو من الآخرين، ويقول: «من مزايا جلد الذات، أننا حين نلوم أنفسنا عند ارتكاب الأخطاء، فإننا نشعر أن ليس للآخرين حقّ في لومنا. إن الاعتراف للنفس بالخطأ هو ما يمنحنا الصفح، وليس استجداءه من الآخرين»!
اما في أعماله الأدبية، فقد كان شعاره: « المبالغة في الحرص هو عنوان النجاح»، وعندما سُئل مرّة كيف قضى يومه؟ أجاب بجدّية: «كنتُ أعمل على تبييض مسودّات إحدى قصائدي طوال ساعات الصباح، وقمتُ بحذف (فاصلة) من النّص، وبعد الظهر أعدتُها إلى مكانها»!!
كان يحبّ أحيانا أن يتظاهر بالجدّ في مواقع الهزل، لأنه يعرف تأثير وقعُ ذلك على الجمهور؛ فقد مرّ به أحد العابرين في الشارع، وصاح في الناس: «أنظروا، هذا هو الأحمق (أوسكار وايلد)..»، فالتفت (وايلد) إلى صاحبه الذي كان يمشي إلى جواره قائلاً: «إنه لأمر رائع أن يتعرّف إليك الناس في (لندن) بهذه السرعة»!
انتقلت شهرته الطاغية سريعاً كذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية حين زارها في عام 1882، بمبالغته في التأنّق في ملبسه، وبراعة تعليقاته على أسئلة مُراسليّ الصحف، ولذلك تكلّلت جولاته في الولايات بالنجاح التّام.
ولم تحصل عبارة بارعة مُختصَرة من الشيوع، ما حصلت عليه ثلاث كلمات قالها (وايلد) في ميناء (نيويورك)، حين سأله ضابط الجمارك: إن كان يحمل شيئاً من الممنوعات، فأجاب: «أنا أحمل عبقريّتي»..!
وُصفتْ جولته الأمريكية في الأوساط الأدبية، بأنها انتقام من جولة الأديب الأمريكي الأشهر (مارك توين) الأوربية؛ فقد ضحك (توين) ساخراّ من حضارة أوروبا المُتعالية، وضحك (وايلد) بنفس الطريقة على افتقار أمريكا للحضارة العريقة!
قال (وايلد): «إن الحياة في أمريكا سلسلة من التوقّعات»!
وقال: «إن عدم اهتمام الأمريكيين بالجانب السياسي في حياتهم، يعود بصفة رئيسية إلى تبنّيهم، كبطل قوميّ، رجُلاً -حسب اعترافه- لا يستطيع أن يكذب»!
كان (وايلد) يصف نفسه بأنه أستاذ في عِلم الجَمال، وحين استلم برقية من أهالي بلدة (جريجزفيل)، يدعونه لإلقاء محاضرة في عِلم الجَمال، ردّ عليهم: «ابدأوا بتغيير اسم بلدتكم أوّلاً»!
إلى جانب شهرته العالمية كمتحدّث بارع، أراد أن يقوم بأداء عملٍ وظيفي ما، فبدأ بتجربة قصيرة لمدّة عام، بالعمل كرئيس تحرير لمجلّة اسمها (عالم المرأة)، وقد استمتع بأداء وظيفته جُزئيّاً بالاسترخاء على مقعد وثير، والتحدّث إلى رؤساء الأقسام، وربما أصبح الأمر أكثر متعة بنقل الاجتماع إلى (المقهى الملكي)، مُطبّقاً حكمته التي تقول: «لا تؤجّل إلى الغد العمل الذي تستطيع أن تؤجّله إلى اليوم الذي يليه»!
أما الردّ على الرسائل الواردة للمجلّة فقد تفاداها، من مبدأه القائل: « لقد عرفتُ رجالاً جاءوا إلى (لندن)، تملأ نفوسهم الطموحات المُشرِقة، ثم رأيتهم بعد أشهر قليلة وقد تحطّموا تماماً، بسبب تعوّدهم على إجابة الرسائل»!
ثم أن (وايلد) رأى أن يعمل كناقد أدبي في مجلّة (بال مال)، ولكن عائقاً آخر وقف في طريقه، فقلبه الرقيق لم يستطع أن يتحمّل جرح شعور أحد الأدباء أو الفنانين!
فقد كان أشدّ نقده مرارة، هو ما وجّههُ إلى الرسّام الأمريكي (جيمس ويسلر)، والذي قال فيه: «إنه حقّاً واحد من أعظم الرسّامين في رأيي، وربما أودّ أن أضيف أنه يوافق تماماً على هذا الرأي»!
ولكن رغبة (وايلد) في البحث عن عمل أصبحت ضرورة مُلِحّة، حينما حدث له ما يحدث لكثير من الناس؛ فقد تزوّج من امرأة ثريّة، ولكن ثراؤها كان لا يزيد عن تأمين الغذاء والسكن، ولكنه لا يرتقي تماماّ إلى مستوى الشعار الذي كان (وايلد) يؤمن به، وهو: «أعطني الكماليّات، وسأتغاضى عن الضروريّات»!
كانت زوجته موهوبة بالصمت، مثلما هو موهوب بالحديث، وقد اعتاد أن يقول: «أساس الزواج المتين، هو سوء التفاهم المشترك»!
ومع ذلك فقد كان زواجه سعيداً لسنوات عديدة، رُزق خلالها بطفلين، كان لمحبّته لهما أبلغ الأثر في نموّ مِهنته الحقيقية ككاتب.
فأوّل كتاب حقيقي، في رأي بعض النُقاد أنه أفضل كتبه، كان أجزاء تحتوي على حكايات عن السّحر والجِنّ، لم تُعجب أصدقائه لأنه لم يكن يرويها بنفس الحماس والإثارة عندما كان يقصّها على أطفاله، ومع ذلك تبقى تلك الحكايات من أروع ما كُتِب في اللغة الإنجليزية.
وفي عام 1891 كان (وايلد) في السادسة والثلاثين، ولم يكن قد وجد طريقاً واضحاً بعدُ لتحويل عبقريّت0ه في الحديث إلى أدب: بدأ بكتابة المسرحيات. وقد كان نجاح مسرحيته الأولى (المُعجَب بالسيّدة ووندرمر) فوريّاً ومُستمرّاً.. لقد وضع خطوته الأولى أخيراً نحو المجد الأدبي.
وعندما كتب مسرحية (أهميّة أن تكون جادّاً) في عام 1894 أصبح أشهر الكُتّاب المسرحيين في (لندن)، وواحداً من أشهر الكُتّاب في العالم، وأصبحت تُباع أعماله اليوم في (أوروبا) أكثر من أي مؤلّف إنجليزي آخر، ما عدا (شكسبير)!
عاش (وايلد) أربعين عاماً، لم يتخلّلها يوماً حزيناً قطّ، حسب كلام أصدقائه، وبعدها أصابه شيء غامض ومُريعُ لم يكشف كُنهه أحد.. ربّما كان النجاح، فقد قال هو مرّة: «في هذا العالم، هنالك مأساتين فقط؛ الأولى: عندما لا يستطيع المرء أن يُحقّق ما يُريد، والثانية: عندم يُحقّقه. والأخيرة هي الأسوأ، الأخيرة هي المأساة الحقيقية».
كانت السنوات الأربع الأخيرة من حياته من بين أكثر الأوقات بؤساً ومأساوية في تاريخ الأدب الإنجليزي؛ كانت أعواماً من العار، والسجن، والمنفى، والجوع -وأسوأ من ذلك كُلّه، الصمت – وعندها، كملجأ وحيد لروحه المُحطّمة، الموت.