د. شاهر النهاري
لست من المؤمنين بالمؤامرات، ولو أن جميع ما يدور حول البشر، لا يمكن أن يكون خالصاً بدون مجالات للشك هنا، والتفكر هناك، والتعجب من كثير من الزوايا، والدفع لمحاولات الفهم.
كرة القدم، لعبة عالمية طاغية الانتشار، وهي تعطي لياقة وحماس وبعض من الروح الرياضية لبعض من يلعبونها، ولكنها تعطي العكس لكثير من أنواع المتزاحمين عليها بالمليارات، بداية ممن يعيشون على حسها، من مصانع وإعلام ومدارس، ومدربين وأطباء، ومن إداريين وفنيين وإعلاميين ومن منشار أهل الاقتصاد، في الطالع والنازل.
الأغلبية العظمى من مليارات البشر، يتابعونها ويتمتعون بها عن بعد حتى ولو كان الكوليسترول يتراكم على شرايينهم مثل صدأ الأنابيب القديمة المتهالكة الميؤوس من تجفيف تسريبها.
لا يوجد مواصفات معينة لمن يعشق كرة القدم، ويتابعها، ويشجعها، ولا من يتخندق طوال عمره في ناد أو منتخب، قد لا يكون مدركاً لكينونته، ولم يدخل بابه، ولكن ولشدة الغرابة، تجده يتكلم عن النادي واللاعبين وكأنهم هو، فيشير إليه بنحن، ولنا وعلينا ومنا وفينا، ويتقمّص كل إشارة تربطه به.
البعض يتابع المباريات متعة، والكثيرون يتابعونها مصيراً ومستقبلاً، ويشغلون أوقاتهم بدقائق ما يجري حولها، ويجعلونها أولوية على كل مشاغلهم، بل وكم يقتصون من حياتهم، لتكون ساعات متابعتهم سواء بالحضور الجسدي المرهق للنفس والجيب، أو بالتمرّغ أمام شاشات التليفزيون، ومواقع التواصل.
القلة في هذه الصناعة يكسبون في جيوبهم، والكثير ينخرطون في عمليات فكر لولبي وعناد وعصبية وانتماء، قد يرهق حياتهم، وصحتهم، فالانتماء هنا جذري، يصنع الكثير من المبادئ والعقد النفسية، ويوطن التعالي، والغرور، واحتقار المنافسين، والدخول معهم في عنصرية وسباب وانتقاص، والتوغل في محاولات تمرير العقد النفسية، وفش الخلق، في الآخرين بسبب هذا الانتماء، الذي يشعر صاحبه بأنه هو كل كيان وجماهير النادي، وأنه هو فقط الحق والعدالة، والقوة، والسيطرة، التي يتمناها، ولا يجدها في حياته بعيداً عن ساعات فوز فريقه، ولا تحدثني عن انكسارات هزيمته، حينما تنقلب الأجواء والأرض والمشاعر إلى كتل نار، وهشيم، وعمليات كذب على النفس وتحوير للواقع، واتهام حكام وأجهزة الرصد الإليكتروني، وإداريين وشخصيات مهمة، وأصحاب مناصب نافذة، ومتسببين وهميين في هزيمة فريقه.
ولم يخل ذلك من اتهام الجن والسحر وبقية الخرافات، وكأن الكون بكامله يتآمر عليه، وعلى فرحته، التي يعيش على رجائها، ومهما تعرض فريقه لهزائم وهبوط، وانحدار في المستوى الرياضي، ونزول لمستويات متدنية بين الفرق، يظل يمجدها.
كثير من العلاقات العائلية والمجتمعية والإنسانية تتحطم بسبب مباراة، وكثير من النفسيات «المكلكعة» تنقم وتحقد، وتحاول التنفيس عن ضيقها بأمور أخرى متراكمة داخلها، ما يفقدها التماسك والرزانة، ويجعلها تخسر حتى أقرب الناس إليها، والبعض يكتئب بعد الهزيمة، ويغلق هواتفه، ويحرق رئته بالتدخين، ويعتزل، حتى تمر العاصفة، وهي لا تمر بالكامل، فهي تعطي الناقمين فرصاً لرد الدين القديم، بسخرية وسخافة يعيش على أصدائها لواقعة جديدة.
الأمر ليس رياضة للمتعة، ولكنه يجد في نفسه شخصية مريضة، لا تعود تنظر للواقع، ولا تستطيع الاستمتاع باللعبة المحترفة الجميلة، ولكنها تشذ، وتكتب تاريخاً من الشك والتشكيك والإحباط، والانكسار، والغل، والإيمان بالمؤامرات الكونية، والبعد عن أرض الواقع ما يجعله طبعاً، ونوع شخصية ديدنها في الحياة الحكم على كل ما يدور حولها بنشاز، بداية من نظرة زوجته له، ومزاح ابنه، إلى قرار مديره في العمل، إلى سببية لون يرتديه شخص بجواره، إلى منتهى الريبة، والتردد، والتخوين.
أليست هذه هي صفات أصحاب الأمراض النفسية؟
الغالبية العظمى من المصابين بداء كرة القدم، لا وجهة نظر ثابتة لديهم، وخصوصاً من يحللون وينظرون على الجماهير في الشاشات، ويصعب أن تجد بينهم المعتدل، والذي لا ينخرط ويتجسد بنفسه في الشعور، والحقد، والتشكيك، ويسحب معه الآلاف ممن يثقون بولائه، لهذا النادي، وعدائه للآخرين، فيكون كلامه نبراساً، حتى لو كان عكس كلامه بالأمس.
عقلية من يعيش متنفساً كرة القدم، ومن يظل يطاردها، ويبذل في سبيلها الكثير من فكره ووقته وماله، تتحول لعقلية مزاجية خاملة، تفقد أي طموح علمي أو فني إبداعي، أو استزادة في المهنة، أو العمل، وبعد عدة سنوات، يصبح مجرد مؤد للعمل، وفي مكانك سر، ينظر لمن حوله، ويجد أنهم يطمحون، وينالون، وهو يصبح بينهم بؤرة ركود، وخروج عن المسار، والالتزام فقط بمنهجية الشك، والمسخرة، وتجشم العناء على أقل الموجود، وهنا يعيش حقيقة المستنقع الشكي، الذي يرتاح له، ويظل يربطه بكل حيلة، وكل منقلب للحقائق، من أجل أن يكون هو الأفضل، ولو في وجهة نظره اليتيمة، بأنه الأنقى عرقاً، ونزاهة، ونادياً، ومكانة، بين من لا يستحقون من وجهة نظره.
وهنا نعود للعنوان، فهل يمكن أن نعتبر هذه الرياضة مؤامرة ماسونية كونية، تسعى لضياع الأنفس، والأخلاق، والطموحات، وقهر عقول الشباب وتقزيم طموحات النبوغ الإنساني حين يبقى العقل حبيس شعار، وغاية الجري بين ممرات الحياة، ومواقع التواصل لتأييد وتشجيع، وتلميع، وجبر كسور، وتشكيك وإنكار الأسباب الحقيقية لوقوع الخيبات؟
والجواب مختلف عليه، فقد يكون ذلك، وقد لا يكون، ولكن من المفيد للجميع، ممن أصابتهم حمى كرة القدم أن يقفوا مع أنفسهم وقفة حق، وأن يعيدوا النظر فيما يفعلون بأنفسهم ومن يتبعونهم، وأن يدركوا فوائد اللعبة دنياً، وأضرارها في موت، ليس فقط على النفس، ولكن حتى على القريبين من المريض، ومن يجدون أنفسهم معه، محكومين بانحراف مرئياته وعصبيته، وتهربه من الواقع، والعيش في عالم افتراضي، لا يفيد، ولا يجعل الحياة تتقدم خطوة في الضياء، ليس فقط تحت أقدام المريض، ولكن بعموم من يؤثِّر عليهم، ويدخلهم في معامع الكره، والحقد، والشك والتشكيك في النفس، وفي كل من حولهم حتى ولو كانوا أطفالاً.
أنا هنا لا أحاول إثبات أو نفي تدخل الماسونية، أو غيرها من المنظمات المتحكمة باقتصاديات وتوجهات وأمراض البشر، والتي تحاول السيطرة على العالم، ولكني أشير إلى أن ما يحدث حول كرة القدم محلياً وعالمياً، يعطي لمثل هذه المنظمات الفرص والحقل والقدرة على التحكم والسيطرة، على البشر، وحتى الحكومات، ومن خلال أمر كان حيوياً وصحياً في بداياته، ولكنه في زمننا الحالي، يعطي الصورة الواضحة، لرسوخ مثل تلك التدخلات المريبة، التي تفرغ العقول.