حامد أحمد الشريف
استخرجَت فستانها الأسود المخمليّ، نفضت عنه غبار النسيان. أحسّت بضيق وهي ترتديه.
هل هو الخوف من الغوص في مجهولٍ لا تعرف عاقبته، قد تكون مياهه ضحلة وقد تفقد الوعي؟ أم هو صدرها قد ازداد حجمًا بعد الحمل والرضاعة، فضاق به المكان؟ نظرت في مرآة الدولاب، طالعتها صورة امرأة تكاد تبتسم. قدٌّ ممتلىء، حروف متناسقة وثغر استوى تفّاحًا أطلسيًّا ينتظر وليمة قد تأتي أو لا تأتي بعدما نسي طعم القبل. استقبلتها الحانة بالأحضان. عالم الليل عالم جديد أعمتها أضواؤه واكتشفت أزقّة عشق ضيّقة وأسواق نخاسة متعدّدة الأشكال وهي التي كانت تظنّ أنّ عصر العبيد قد ولّى.
بسيّارة الأجرة وأذان الفجر على الأبواب، استخرجت مرآتها الصغيرة، التفت إليها السائق مذعورًا وهي تصرخ: هل هناك أقبح من وجه امرأة خانتها مرآتها فلم تصحِّح عيوبها؟
الكاتبة المغربية الدكتورة زهرة عزاز
هل الوجه الذي نراه في المرآة هو وجهنا الحقيقيّ، أم هو وجهٌ نبحث عنه ونتوهّم أنّنا نراه؟ هل تخدعنا المرآة بالفعل وتُرينا أشياءً نحبّها وتُخفي عنّا بعض الأشياء التي نكرهها أو لا نريد رؤيتها؟ أم نحن من نخدع أنفسنا، فنرى ما نريد رؤيته ونغضّ الطرف عن باقي التفاصيل البادية أمامنا؟
أظنّ أنّ القصّة يمكن اختزالها في هذه الصرخة، أو لنقل، النظرة التي مزّقت سكون اللّيل وعجّلت بانبلاج الصبح، وهي تبحث عن مشجب تعلّق عليه خطأها بل خطيئتها... كانت تحاول الاختباء خلف المرآة، أوهمت نفسها بأنّها خَدعتها حين لم تطلعها على حقيقتها عندما نظرت إليها قبل خروجها من البيت؛ أرادت منها أن تكون صادقة معها وتريها الوحل الذي كانت ذاهبة إليه بقدميها، وتنكر عليها خداعها...
وقد لا يكون الأمر كذلك، فنحن - على الأرجح - لا نعترف بأخطائنا، ونحاول إلصاقها بالآخرين عندما نريد الهرب من قراراتنا السيّئة. قد يكون هؤلاء المتّهمون بشرًا مثلنا، وقد يكونون جمادًا كالمرآة؛ المهمّ أن يكون هناك سببٌ لأخطائنا نستطيع توجيه أصابع اللوم إليه، ونتخاصم معه عندما تحلّ الكارثة، حتّى لا نقف على حقيقة مهمّة، وهي أنّ كلّ هؤلاء ما كانوا ليفعلوا شيئًا لولا أنّنا منحناهم الضوء الأخضر ليعبثوا بقراراتنا، ويُظهروا لنا ما نحبّ سماعه ورؤيته. وحتّى نخرج من هذا الوحل، أو لنقل، حتّى تخرج هذه العاهرة من الوحل الذي خاضته بأقدامها ولم تكن مجبرة عليه، ينبغي أن تكون صادقة مع نفسها، وتعترف بأنّ المرآة، وحتّى فستانها الأسود، وذبول نظرتها، والهالة السوداء التي عادة ما ترافق مثل هذه المشاهد، كانت جميعها ستصدُق معها، وتطلعها على الحقيقة التي لا تودّ سماعها، وتحاول تحذيرها من ذلك الوحل الذي كانت تنساق إليه كلّ ليلة؛ لولا أنّها اختارت طمس الإشارات التي تصلها منها، ووأدها في مهدها، وقرّرت رؤية الصورة التي تريد رؤيتها فقط.
فهي من خدعت نفسها حين انشغلت بابتسامتها المخادعة التي أعادتها إليها المرآة ولم تستطع حجبها وهي ترى اهتمامها بها، وحين اكتفت بالنظر إلى جسدها فقط، متجاهلةً مشاعرها وأحاسيسها التي كانت ستريها إيّاها المرآة لو نظرت جيّدًا في عينيها، وأهملت جسدها؛ أو على الأقلّ، لو نظرت إليه من زاوية مختلفة، فتراءى لها شكله الحقيقيّ الذي سيرشدها إلى أنّ هذا الجسد الذي فُتنت به هو مصدر تعاستها وليس سعادتها الخادعة، فهو من يسهم كلّ يوم في إسقاطها في الوحل عندما تتركه طوعًا لحثالة الشوارع يعبثون به ويقذفون خسّتهم وحقارتهم ووضاعتهم في جوفه... فلا ترى كلّ ذلك، بل تنشغل بتضاريسه فقط.
لم تنظر إلى الفستان الأسود إلّا على أنّه رداءٌ جميل يُبرز مفاتنها، ويُغري الجميع بجمالها، ويُظهرها بأبهى حلّة، بينما كان عليها رؤيته من زاوية أخرى تُظهر قيمته الحقيقيّة، حيث هو معنيّ بطمس صورتها الحقيقيّة المقزّزة، وحجبها عن الظهور أمام الجميع، موهمًا من لا يعرف حقيقتها أنّها فاتنة وجميلة؛ وعوضًا عن الالتفات إلى ذلك كلّه، والصدق في النظر إليه، لم تجد، وقد غاصت قدماها في الوحل، غير المرآة تلصق بها خطيئتها.
أظنّها كانت تعيش هذه اللحظة في نهاية كلّ ليلة، عندما تقبض الثمن وتشعر بالمهانة... فالمذنبون - كما هو معلوم - غالبًا ما يشعرون بجرمهم، وقد يندمون عليه بعد انتهائهم منه ووقوفهم لحظة صدق أمام أنفسهم، بالأخصّ إن كانوا في بداية هذا الطريق ولم يغرقوا كلّيًّا في الوحل، بحيث تنعدم هذه المراجعات الشعوريّة، أو تصبح متباعدة، ومتزامنة مع الأزمات الشديدة المزلزلة التي قد تحدث فجأة وتنكأ الجراح مرّة أخرى.
في ظنّي، حمل هذا النصّ مغازيَ عميقة جدًّا، تمسّ واقعنا وتكشف زيف ذواتنا المخادعة، وردّات فعلنا الانتقائيّة مع أخطائنا، وذهابنا - غالبًا - نحو الآخرين عندما نريد الهروب من قراراتنا القاتلة، وهو ما يخضع له الجميع بلا استثناء؛ فالأمر لا يقتصر على تلك العاهرة، وإنّما قد نعيش جميعنا هذا الموقف، فنتوهّم أنّنا خُدعنا ممّن حولنا، بينما خديعتنا الحقيقيّة هي في أنفسنا التي تبعدنا عن الأسباب الحقيقيّة لسقوطنا، وتذهب بنا باتّجاه الآخرين طالبةً منّا محاسبتهم. ورغم المبالغة الظاهرة في هذه الحكاية، بوضعها اللوم على جماد لا يملك القدرة نهائيًّا لتغيير بوصلة قراراتنا، أو تزيينها في أنفسنا، كانت محاولة موفّقة لإشعارنا بحجم المصيبة التي نعاني منها بهروبنا القاتل ممّا ارتكبته أيدينا ونفخته أفواهنا.
في نهاية المطاف، علينا الإقرار بجماليّة النصّ وقدرته على اختزال المشهد وتكثيفه، وإيصال رسالته، محافظًا على إيقاعه الحركيّ الإبداعيّ الذي فاق مساحته السرديّة الضئيلة. كما علينا إطراء مشهديّته الرائعة التي جعلتنا نقف على كلّ تفاصيل الحكاية، ونشعر بها، ونندمج معها. وقد زاد النصّ جمالًا قفلته المدهشة وأسلوبه الكتابي اللافت الذي أوقفنا على هروبنا القاتل.