سهام القحطاني
«إن المؤرخ كلما كان متفننا قلّ تدقيقه، فالواقع أن عيانه الشخصي البالغ الشدة يقوم مقام الحقائق، ويدل هذا الدور الخصيب الذي يمارسه الخيال في الأقاصيص التاريخية على السبب كون إدراك الحادث عينه يختلف باختلاف المؤرخين تبعا لمبادئ كل زمن» -فلسفة التاريخ، غوستاف لوبون.
أعاد مسلسل الإمام الشافعي الذي عُرض في رمضان جدلية الرؤية الأدبية للتاريخ وحديّ الإبداع والابتداع لتلك الرؤية، والإطار المأمون الذي يحمي تلك الرؤية من الانزلاق في طريق إفساد السير التاريخية ومحتويات التاريخ ومرفقاته بوجه عام.
وعندما نتحدث عن إشكاليات الرؤية الأدبية للتاريخ فنحن هنا نتذكر الرؤية التأويلية «للشعر الجاهلي» لطه حسين الذي فتحت عليه أبواب جهنم؛ عندما أعتبر أن معظم الشعر الجاهلي هو شعر منتحل باعتبار خصائصه الفكرية التي تميل إلى الفكر الإسلامي، وأن قليلة ما يُمكن أن يُعد شعرا جاهليا حقيقيا غير منتحل.
إن «منهج الشك» الذي اعتمد عليه طه حسين لتحليل الشعر الجاهلي والذي استند بدوره إلى آلية الانتحال التي تبرر ذلك الشك، إضافة إلى مؤشرات التطابق التي اعتبرها مصدر توثيق؛ أقصد الأفكار والموضوعات، والأهم وقوع شبهة التكرار لنماذج لاحقة في أحقاب مختلفة، ففي العصر الأموي هناك نماذج شعرية منتحلة لشعراء في صدر الإسلامي وهذه الظاهرة مكررة، وبذلك يكون مثلث صدقية منهجه الشكي كما ظن طه حسين قد اكتمل؛ أي الآلية ومؤشرات التحقق وفاعلية التكرار.
مع إغفال أهمية وحدات الجنس والفكر والزمن التي قد يكون لها أثر في خط التماس بين الخصائص الشعرية للحقبتين.
فالفترة الزمنية بين الشعرين الجاهلي والإسلامي ليست بفترة طويلة بحيث يصبح الفارق بين الخصائص الشعرية للفترتين واسع النطاق، إضافة إلى أن التجديد الشعري يحتاج إلى جيل آخر خُلق في بيئة مختلفة عن البيئة القديمة بمفردات حضارية مختلفة.
وهو ما لم يتحقق للشعر في صدر الإسلام ولذا فمن الطبيعي أن يكون الشعر في صدر الإسلام متأثرا بالشعر الجاهلي وليس العكس، وقد يكون هذا السبب هو دليل مراجعة رؤية طه حسين.
ولعل السؤال البارز هنا، هل توفر المسار المنطقي للرؤية الأدبية للمحتوى التاريخي هو دليل كفاية على «صدقها»؟
إن الصدق مرتبط بالإقناع والاقتناع وليس بالحقيقة كما يذهب القول الفلسفي؛ وهذا الفضاء تندرج في ظله «الرؤية الأدبية للتاريخ»، وهو ظل تنمو في زواياه كثير من الابتداع.
إن الطبيعة الإنسانية لا تتغير بالتطور، أو لنقل «قلما تتغير» وهذا المبدأ المكون من مصفوفات عللية هو الذي تُراهن عليه الرؤية الأدبية للتاريخ في تخيلها، فكل فعل له ردة فعل مساوية له في الجذب والأثر لا يخضع لدوائر الزمان والمكان، وبالتالي فإن فكرة البناء على أثر القالب التاريخي غالبا ما تستند إليه الرؤية الأدبية للتاريخ بضمان فاعلية التكرار.
تفترض الرؤية الأدبية للتاريخ وجود قالب درامي غير مرئي للحاصل، وسعة هذا القالب تتمدد أو تتقلص وفق مساحة المجهول أو المعلوم للمحتوى التاريخي، وكلما توسعت ذاكرة المجهول للمحتوى التاريخي تمددت مخيلة المبدع في إبراز الإضافات الخيالية، والعكس تماما، فمعلومية ذاكرة المحتوى التاريخي هي قيد لمخيلة المبدع.
ولذلك لا نتعجب عندما تركز الرؤية الأدبية على المحتوى التاريخي الذي يكثر حوله الجدل و تتضارب في تفسيراته أسهم التأويل.
وليست المجهولية المعرفية محفّزة إبداع فقط بل خاصية الأسطورة التي فد تحيط ببعض المحتويات التاريخية، هذه الخاصية تمنح الرؤية الأدبية للمحتوى التاريخي فضاء من الاستطراد التخيليّ.
والرؤية الأدبية للمحتوى التاريخي غالبا ما تستثمر تلك المجهولية والاستطراد التخيلي لإنتاج معان لدعم جدار ذلك المحتوى برافعات متشابهة بالتجاور، وهنا قد يفقد المبدع القدرة على ترويض رؤيته ليفسح للابتداع صوت قول.
نشأت الرؤية الأدبية للتاريخ لتحقيق متعة فنية للجمهور باعتبارها «قالبا فنيا» وليست «مدونة معرفة» مع أنها تستند على هيكل معرفي، بحيث يكون الحدث التاريخي حاضرا ومستمرا ومتداولا، ولضمان أثر تلك المتعة أُضيف له مؤثرات الدراما «الاستطراد التخيلي والشاعرية والغنائية» «مسرّحة التاريخ».
يتميز المحتوى التاريخي، أنه غير خاضع «لفعل الانقضاء» أو استدامة الدلالة التأويلية وتوليدها»، وهذه الخاصية تجعله فضاءً مثيرا لاختلاق الحكايات ذات الحبّك الواحد.
هل هناك إطار ضامن للرؤية الأدبية للتاريخ بحيث يحميها من الانجراف نحو الابتداع؟
حسبما أظن يظل الإطار الأخلاقي للمبدع هو الضامن لحماية المحتوى التاريخي من أي خروقات فكرية، أو انتهاك لحقوق الحدث التاريخي، أو استغلال الرؤية الأدبية للمحتوى التاريخي لدس السم في العسل، وخاصة أن الصدق في هذا المقام مرهون بالإقناع، فالحقيقة سياج عائق لفضاء الرؤية الأدبية وهذا أمر قد يدفع المبدع إلى الاحتيال عليها بالتصرّف الإبداعي.
الرؤية الأدبية للتاريخ تكذب وتتجمل «غالبا».