عبد الله النجدي
لو وضعت قائمة من عشرة نصوص قصيرة أو مقولات أو ما شابه ذلك، خمسة منها لكتاب مشهورين ومعروفين وأسماؤهم تملأ الفضاء الأدبي، وخمسة أخرى لكتاب مبدعين، لكنهم مغمورون غير معروفين، أسماؤهم لا تملأ حتى سماوات حاراتهم، ورتبت هذه النصوص ترتيباً عشوائياً، ثم وضعت أسماء هؤلاء العشرة تحت نصوصهم، ثم وضعت نفس القائمة السابقة لكن بعد تجريدها من أسماء أصحابها مغمورين ومشهورين. ثم ذهبت إلى عشرة من القراء المعروفين والنقاد البارزين، وطلبت منهم ترتيب نصوص القائمة الأولى حسب جودتها، ثم احتفظت بآرائهم في درج مكتبي المكسور لمدة سنة أو سنتين، ثم بعد أن تيقنت أنهم نسوا هذه النصوص، قدمت لهم القائمة الثانية التي بلا أسماء. برأيكم هل ستتطابق آراؤهم في القائمتين؟
أشك في هذا، لماذا؟ لأن للاسم سطوته.
سطوة الاسم مرض عضال ينخر في جسد الأدب، مرض - ونقيضُ عادةِ الأمراض - سيجعل بعض أعضاء هذا الجسد تنمو بشكل كبير وأعضاء أخرى تنمو بشكل ضعيف وربما تموت.
ويتساوى في ذلك الأسماء التي أصبحت كبيرة لأنها تستحق وبجدارة، والأخرى التي أصبحت كبيرة فقط لأنها تجيد فن التواجد والظهور.
يجب أن نكون ضد تسفيه الأسماء الكبيرة - الجديرة - بل ويجب إعطاؤها حقها من التقدير والتبجيل، لكن بالتوازن والتوازي مع إعطاء الأسماء التي تظهر تباعاً حقها من الظهور، وذلك بتناول أعمالها الأدبية والحديث عنها.
ثم إن كون الاسم كبيراً لا يعني بالضرورة أن تكون كل أعماله كبيرة، ليتسابق النقاد والقراء لتنزيل كل عبارات التفخيم على جسدها، وتزيين جيدها بكل المصطلحات النقدية الرنانة.
ففي الرواية مثلاً، إن فشل الاسم الكبير في تنقلاته في وجهة النظر من راوٍ متكلم إلى راوٍ عليم، فإنهم سيجدون له ألف تخريجة تقول إنه أجاد وأحسن. أما حين يمارس كاتب صغير نفس العمل، فإن النقاد والقراء نفسهم سيقولون إن هذا الكاتب ارتكب كارثة أدبية, وقس على ذلك عند استخدام اللغة البلاغية والشعرية، أو الوصف، أو رسم الشخصيات، أو استخدام الحوار، وغير ذلك من التقنيات.
هنا يكون التقييم للاسم لا للعمل. في حين أن الأصل هو تناول العمل بغض النظر عن الاسم.
اللوم هنا على النقاد المعتبرين والقراء المحترفين، الذين يعرفون الفروق بين السيئ والجيد والأجود، لكنهم يجاملون.
أما من يقدم نفسه كناقد من القراء وهو لا يملك أياً من أدوات النقد، ويتساوى معه في ذلك الناقد الذي درس النقد لكنه لا يملك موهبته، فهو وعاء حفظ للمصطلحات النقدية لا أكثر، هؤلاء لا لوم عليهم، لأنه هذه قدراتهم الأدبية والفكرية والثقافية، وهم في حلٍّ حين يمتدحون ما يمتدحه النقاد المعتبرين والقراء المحترفين، فهم لا يقومون سوى بإيجاد مخرج لهم من مأزق عدم امتلاكهم لرأي أصيل, ورأفة بهم لن نغلق عليهم هذا الباب.
الناقد المعتبر صاحب الرأي الأصيل، ومثله القارئ المحترف، يستطيعان أن يقولا عن نص أو كتاب شهير لكاتب مشهور أنه سيئ، وأن يقولا عن نص أو كتاب لكاتب مغمور إنه رائع ومذهل.
أما بخصوص الكاتب، فإنه حين يسعى لتسويق إبداعه عن طريق العلاقات الاجتماعية مع النقاد والقراء، فهو هنا يقترف ذنبين: الأول في حق إبداعه حين لم يثق به، الثاني في حق نفسه حين جعلها تتسول.
وحتى لا يكون هناك لبس، فمن حق الكاتب بل من الواجب عليه تسويق إبداعه، لكن من خلال إبداعه، وذلك بتواجده في المحافل الأدبية ومنصات التواصل الاجتماعي وغير ذلك من وسائل، لكن دون تسول مدح، أو استجداء إشادة، فكما للكاتب ماء وجه يجب عليه ألا يريقه، فلإبداعه ماء ورق يجب عليه ألا ينثره.