عهود عبدالكريم القرشي
في هذا الزمن المُتسارع، والوقت المُنسل الضائع، يطيب لي قراءة رواية مكثفة، صفحاتها قليلة، شخوصها واضحة، حبكتها رشيقة، كوجبة أدبية سريعة.
ومن الطائف مدينة السحاب والمطر أقول -دون قطرة مبالغة- بأن المطر أينما وقعَ نفعْ، حتى على أرض الروايات! منذ أن قرأت رواية «محاضرة في المطر» قبل شهرين تقريباً وأنا في ورطة الكتابة عنها؛ لأنني أحببتها و[مَن أحبّ وقع] كما قيل لبطل الرواية، وكما يحدث للمطر!
«محاضرة في المطر» رواية كُتبت على مقاس الدهشة، وأبعاد المفاجأة. مُناسِبة لعشاق المطر، ولكل من قاوم النوم بشدة أثناء المحاضرات! رواية لمحبي القراءة، أمناء المكتبات، وللذين جمعتهم مواقف عاطفية بالكتب! كتبها المكسيكي الصحفي الروائي خوان بيّورو قبل أعوام، وصدرت بالعربية عام 2022م عن منشورات تكوين.
أما الغلاف الأزرق المبلل بالمطر، فلم يدفعني للغوص في القراءة. غلاف -كما أراه- مُحايد يفي بالغرض، يعبر عن العنوان، مستوحى من فكرة الرواية، مريح للنظر، ولا يسبب حرجًا أو قلقًا على رف المكتبة. على الغلاف يظهر اسم المترجم المصري القدير مارك جمال كعنصر مُشع للقارئ العربي، كي يقتني الرواية ويقرأها بيقين تام أن المترجم قام بواجبه في الترجمة على أكمل وأجمل ما يكون. حينما تقرأ لمارك جمال فأنت تقرأ أدباً يتميز بثلاثة مميزات: الاختيار الذكي، الترجمة الرصينة، والأسلوب البلاغي.
قالوا عن الرواية أنها «مونولوج» طويل، وقيل عنها أحادية الرؤية والراوي، وأقول أنها أشبه ما تكون باعتراف مطول بالخيبات والذكريات، قالها البطل/الراوي في لحظة تجلّي وأسماها «محاضرة» احترامًا لأفكاره، محاكاة لقراءاته، وربما تقديراً لعمله كأمين مكتبة. أحببتها كورقة مصارحة، كنصٍ مكتنز بالجمال مرصع بالعمق، يقرأ عدة مرات.
تبدأ الرواية بزخات من المشاعر والمطر. كأن مُخرجاً مسرحياً استلم زمام الأمور من الصفحة الأولى، وقرر تأثيث خشبة السرد. وبالكلمات وحدها بدأ العزف المسرحي، فمرة يصف زوايا المكان، ومرة يكشف وجه البطل ونواياه، ثم يأخذنا بين حين وآخر لرؤية المشهد من الأعلى، حيث يطيب لنا التطفل على عالم الرواية برؤية أكثر اتساعًا وعمقاً. هذا الإيقاع المسرحي -كما أسميه- أعطى هذه الرواية القصيرة حركة مستمرة، وأبعدَ عنها شبح الوصف الممل.
يشرع الراوي في المحاضرة، فيضيع الورق ويبدأ القلق. صفحة بعد صفحة يستطرد متحدثاً ويمزج بين أفكاره وأحلامه ويجذبنا دون وعي منه إلى حياته الخاصة، التي لعب فيها المطر والشعر لعبة الحظ السعيد والتعيس. ومن منا لم يشاكسه المطر ذات غرق؟ أو يتمنّع عنه الشعر ذات لقاء؟ يقول مستشهداً عن دور المطر في حياته: [يتساقط المطر أفضل في المخيلة ولقد عرف بعض الشعراء كيف يثيرون السماء.]
لقد ارتبطت كلمة محاضرة في أذهان البعض بالكلام الكثير المكرر الباعث على التثاؤب والمحرض للهرب. فكيف لو كانت المحاضرة وقت المطر؟ لقد تورط الكاتب بإلقاء محاضرته تحت المطر (الحقيقي والمعنوي) ولم ينج من هذه المخاطرة إلا بكشف الأسرار، والحديث عن علاقاته الخاصة، وتأطير أفكاره بين الأدب والحب، والكتب والتعب!
لعل أكثر ما أعجبني في هذه الرواية هو أنها رغم كلماتها القليلة، وصفحاتها المحدودة (58ص) إلا أنها تطرقت بعمق وذكاء وشاعرية لمواضيع مختلفة سأتحدث عن بعضها تاركة للقارئ المهتم متعة قراءة الرواية والغرق تحت مطرها.
تناولت «محاضرة في المطر» مسألة تنظيف وترتيب المكتبات الخاصة منها والعامة، وما يتبعه من همٍ متواصل يبدأ منذ شراء الكتاب حتى آخر يوم في العمر. يقول عن هذه الأزمة: [أمضيت حياتي في ترتيب المكتبة، فبعثرت الكتب حياتي] فكمْ بعثرت الكتب من قلوب وعلاقات؟ وكمْ بعثرنا من أموال وساعات لأجل الكتب وفي المكتبات؟
أما إعارة الكتب فمأزقٌ أخلاقي لكل من امتلك كتاباً ومكتبة. ورغم تفاوت واختلاف التفاعل حول مبدأ إعارة الكتب سيبقى الأمر مسألة شخصية، وقرار قد يندم عليه الشخص مرة في العمر. يقول خوان عن إعارة الكتب: [ ليس من السهل أن تعير كتبك إلى مَن يحبّها بالقدر الذي يمنعه من ردّها إليك. بين فقدان الصداقة وفقدان الكتاب، فكلُّ عاشق للكتب يفضّل فقدان الصداقة.] فهل نفقد أصدقاءنا القراء في سبيل المحافظة على مكتباتنا كاملة؟ وماذا عن «بركة العلم، إعارة الكتب»؟ العجيب أنه حين دارت أحداث الرواية عن إعارة الكتب كان كتاب ألف ليلة وليلة هو المعني بالمسألة. وخاصة النسخة الخاصة التي ترجمها المستشرق الإنجليزي ريتشارد برتون، والتي -كما يقال- أفضل ترجمة إنجليزية لحكايات ألف ليلة وليلة.
تطرقت الرواية لعدة أفكار ومواضيع دارت في فلك الكتب والأدب، و لكن الحديث عن المثقف الأصلع البدين كان في نظري من أغرب المواضيع وأكثرها ابتكاراً وتفرداً. حيث أسبغ خوان على المثقف الأصلع البدين بوصفٍ أدبي ثقيل مفيد، قال متحدثاً عن صديقه الذي لا نعرف صدقه من كذبه: [يُعَدّ البدين المُثقَّف أكثر إقناعًا من الرجل الرشيق، لأن البدانة تبدو وكأنها إدراك الحكمة…البدانة تسبغ على رجال المجتمع، وقارًا، ثم يكتمل وقارهم بالصلع، لأن الرأس اللامع يضفي على صاحبه جلالاً]
حضر الشِعر بعمق وبهاء في هذه الرواية، وتجولنا في مختارات عميقة لنيرودا، بيسوا، أوكتافيو باث، حيث عرفنا أن [الأدب هو ذلك المكان حيث ينهمر المطر] وأنه [بالمطر يتحرّر الشعراء من العالم، ويثيرون في النفوس شجنًا هيّنَّا على النفس، يليق بيوم غائم،] ولأكثر من مرة تساءلت -أثناء القراءة- عن مدى تعمق الشعر وامتزاجه بجمال وانسجام في الرواية العربية، وهو الأحق - أعني الشعر العربي- بالخروج من الدواوين، والسفر للعالم على ظهور القصص وفي سفن الروايات.
أخيراً، منذ أن نشأتُ كبذرة صغيرة على أرض الطائف، والمطر يبللني ويسقيني ويرويني ويُغرقني. ولي مع المطر حكايات حب، وأغنيات شوق، ومظلة عشق مفقودة، ولكن أن أقرأ رواية عن المطر، وأحلق في سحائب معانيها المثقلة، وأغرق في قطرات سطورها، وترتوي روحي من دهشتها، فهذه نعمة لا أجدها إلا في حَرَمِ الروايات. «محاضرة في المطر» رواية كما يجب أن تكون الروايات.