د.حسن مشهور
عندما نتأمل السيرة الذاتية للأديب والوزير في عصر الدولة العباسية محمد بن عبدالملك بن الزيات، سنجد أن هذا الشاعر الكرخي المولد العباسي الولاء، قد كان الشخصية الأكثر مقتًا وربما كرهًا بين مجايليه ومن عرفه أو عاصره، وربما حتى ممن قد ولد بعد حادثة قتله الشهيرة بعقود جراء ما قرأه عنه أو حُدِّث به عنه.
أما سبب كره هؤلاء لابن الزيات، فيمكن رده لأمرين، الأول؛ هو تلك النرجسية التي طالته وذلك الشعور المتعاظم بأناه التي لازمته على امتداد حياته، وعكستها تعابيره وأقواله في مواقف ومقامات حياتية عدة، ومنها قوله بأن أغلب البشر بقر!
أما الأمر الآخر؛ فيتعلق بآلية تنفيذ عمليات القتل وابتكاره لأساليب مغرقة في العنف عند تنفيذ لعمليات القتل ضد من يرى بأن هناك موجب لتصفيته جسديًا. وأشير بذلك إلى ما نقلته لنا أدبيات التاريخ، من أنه قد أمر بصنع فرن من حديد يحرق فيه يرى بأن هنالك موجب لقتله، سواء خصومه أو من عامة الناس.
ومن ذلك أيضًا، ما أورد الدكتور يحيى الجبوري في كتابه الذي عنونه بـ «محمد بن عبدالملك الزيات، سيرته، أدبه، تحقيق ديوانه» وسعى فيه على تتبع سيرة ابن الزيات وعلى تحقيق شعره، حيث أورد فيه أن ابن الزيات قد كان شديد القسوة، وصعب العريكة لا يرق لأحد ولا يرحمه. وكان يردد على الأسماع بأن الرحمة خور في الطبيعة.
وفي تقديري أن ابن الزيات في توصيفه الفوقي للبشر بان أغلبهم بقر والباعث له كما أسلفت اعتداده بنفسه وتضخم «أناه»، قد كان يتقارب بشكل ظاهري فقط مع تقسيمة أفلاطون للبشر، الذي وضع فيه أغلب الناس في أسفل هرم ووصفهم بالبرونز، ويتقارب كذلك في طرحه هذا أيضًا مع إبراهام ماسلو في تقسيمته الهرمية التي عنونها بالاحتياج الإنسان، والذي وضع في أسفله الحاجات الجسدية من مأكل ومشرب وإشباع جنسي.
ولأن كان أفلاطون قد كان منطلقه أن البرونز هم عامة الناس دون تحقير أو انتقاص، وكان غرض ماسلو أن المحرك الرئيس للإنسان هو رغبة البقاء التي لا تتحقق في درجاتها الأولى سوى عبر الطعام والشراب، فإن ما ذهب إليه ابن الزيات قد كان أبعد من ذلك وأكثر دونية من طرح هؤلاء، وهذا ما جعلني أصف فعله هذا بأنه تقارب ظاهري لاعميق مع طرح ماسلو وأفلاطون.
فابن الزيات فيما أرى، قد كان يحقِّر عامة الناس ويرى أنهم لا يفرقون عن الحيوان في مبتغاه الوجودي من مأكل ومشرب وتغوّط فقط، ما عدا النزر اليسير من البشر. وهؤلاء النزر القليل من الناس، هم من كانوا على شاكلته هو أي من المهتمين بالشعر والأدب على عمومه.
يورد الجبوري ومن تناول سيرة ابن الزيات من قبل كأبي فرج الأصفهاني في كتاب الأغاني، بأنه قد كانت لابن الزيات طريقة في تعذيب خصومه. وتمثّل ذلك في أنه قد اتخذ «تنورًا» من حديد وجعل أطراف مساميره المحددة إلى الداخل، بحيث جعلها قائمة مثل رؤوس المسال، وكان يعذب في تنوره هذا المصادرين وأرباب الدواوين المطالبين بالأموال، فإذا جعل أحدهم في هذا التنور وأشعل عليه النيران، فإنه إن انقلب أو تحرك من حرارة العقوبة، تدخل المسامير في جسده، فيجد لذلك الأمر أشد الألم. كما أورد كذلك بأنه لم يسبقه أحد من الخلق على امتداد التاريخ إلى هذه العقوبة.
وفي اعتقادي بأن الأمر مبالغ فيه، فربما الرجل قد كان يعذب ويأخذ الناس بالشدة، لكن أن يعذب بالحرق ويتخذ لذلك أسبابًا جديدة، فلا أظن أن الأمر قد كان على تلك الصورة، وربما كره بعض الناس والمؤرخين له قد جعلهم يصورونه على تلك الوحشية المبالغ فيها.
ولو فرضنا جدلاً بأنه قد كان على تلك الصورة المقيتة من التوحش، فإن من ينبغي أن تلقى عليه تبعية هذا الفعل غير الإنساني بالناس ومعاقبتهم بالحرق في التنور، هو الخليفة العباسي المعتصم ومن أتى بعده وخلفه على الناس، وأعني به ابنه الواثق بالله. فهما إن سكتا حتى ولم يعترضا على تغوّل الرجل واستبداده وتعاطيه غير الإنساني مع خصومه وخصوم الخليفة، فهما في هذه الحالة شركاء في الجرم، ومن ينبغي أن تلقى عليه تبعة هذا الصنيع.
ولأن كانت أدبيات التاريخ تنبأنا بأن الابن الآخر للمعتصم وأعني به المتوكل على الله، قد كان هو من نكب ابن الزيات وعاقبه بأداة حرقه أي التنور، وأوكل به من يعذبه ويردد على أسماعه حين يطلب الرحمة، ذات العبارة التي كان يرددها ابن الزيات من قبل على أسماع خصومه بأن «الرحمة خور في الطبيعة»، أي ضعف في الطبيعة الإنسانية ينبغي ألا يتحلى بها الإنسان الكامل، فإن مجمل ذلك ينبغي أن يعنينا نحن معشر القراء من قريب أو بعيد، ففي ظني أن أغلبه مكذوب، أو على أقل تقدير، أن أقول إنه أمرٌ قد اختلطت فيه الحقيقة بالأسطورة. وبأن ما ينبغي أن يحظى باهتمامنا في المقام الأول هو شعر ابن الزيات فقط لا غير.
وتأملوا معي قوله:
نَم فَقَد وَكَّلتَ بي الأَرقا
لاهِياً بُعداً لِمَن عَشِقا
إِنَّما أَبقيتَ من بَدَني
شَبَحاً غَيرَ الَّذي خُلِقا
وَفَتىً ناداكَ مِن كُرَب
أَسعَرت أَحشاءَهُ حُرقا
غَرِقَت في الدَّمعِ مُقلَتُهُ
فَدَعا إِنسانَها الغَرقا
ما لمن تَمَّت مَحاسِنُهُ
أَن يُعاطي طَرفَ من عَشِقا
لَكَ أَن تُبدي لَنا حُسناً
وَلَنا أَن نُعمِلَ الحَدَقا.