د.نادية هناوي
وثَّق السرد مطاف البشرية من الأزل إلى اليوم، فكان هو منطلق لحظتها في امتداد واقعها حاضراً وهو المتنبئ بقادمها مستقبلاً والمسترجع لتاريخها ماضياً، وهو أمر لا يتوفر في شيء آخر غير السرد الذي وجد كي يمثل الإنسان في معارفه ويعبّر عن ذاته تجاه كل ما حوله ويسجل تاريخ كل ميدان من ميادين عمله. فلا يقف في وجه السرد حد ولا يمنعه قيد، بل هو من السعة التي تجعل السارد محطماً الحدود وقافزاً على المقاييس؛ أولاً بالكلام الذي له في ابتداعه متاحات المجاز والاستعارة، وثانياً بالقارئ الذي له تأويل ذلك الكلام بمرجعيات ومحددات تظل مفتوحة ولا نهائية.
ولأن الإنسان هو فاعل السرد وناطقه ومن خلاله يعبّر ولأنه أيضاً متلقي هذه الفاعلية والمشارك في إتمامها بالتأويل، فلا مجال لحسر هذه الفاعلية بين منشئ هو مؤلف ومتلقٍ هو سامع أو قارئ، بل لا يمكن مداراة امتداد هذه الفاعلية بعقل يصنع أو واقع يحاكى أو منطق ينسج.
ولأهمية العقل في السرد مالت السرديات ما بعد الكلاسيكية إلى استعادة هذه الميكانيزمية التي عرفها السرد القديم عموماً والعربي تحديداً. والمتمثلة باستثمار العقل الذي لا حدود لقدراته في التفكير بكل ما فيه وما حوله من أشياء مرئية وغير مرئية، معقولة وغير معقولة أو لا طبيعية.
والمهم في الإنتاج السردي أنه لا يُبتكَر من فراغ ولا يعكف عليه الإنسان صدفة ولا توجده عوامل آنية، ولا هو مجرد إعجاب أو استمتاع فهذه مسائل تأتي عرضاً، وإنما السرد نزوع داخلي يتملَّك الإنسان ويجري في جوارحه كفعل حياتي يفكر فيه بالعقل، مميَزاً بذلك عن سائر المخلوقات. والتفكير في السرد يتجلى كموهبة كلامية فيتولِّد من المتداول والمعتاد قوله، ما هو جديد غير معتاد تداوله واقعياً لكنه منطقي إبداعياً وإن اشتط عن المقاييس. وما من سرد إلا هو عبارة عن تفكير لا يقر بالأقيسة العقلية، فيدخل فيه ما هو غير عقلي صانعاً واقعاً مبتدعاً، يخالف الواقع المعيش أو المعتاد لكنه يعبر عنه تأويلياً كأهواء عاطفية وآراء وشروحات تخمينية وآفاق توقعات مختلفة بسيطة الصور أو مركبة، منضبطة أو فوضوية.
ولا خلاف في أن ما يعد خطأً في المقاييس الواقعية هو صحيح في المقاييس الأدبية، وتعد المحاكاة الأساس في تفسير ميكانيزما هذا التعاكس ما بين التفكير الواقعي والتفكير الأدبي. وتختلف درجة المحاكاة عند أفلاطون عما تكونه عند أرسطو ليس لأنهما عاشا في عصرين مختلفين من ناحية الإنتاج الفني والعطاء الأدبي حسب، بل لأن فلسفة الفن - والجمال من ضمنها - تفاوتت من ناحية النظر إلى فاعلية العقل في التخييل. وإذا كان أفلاطون قد قللَّ من قوة المخيلة في تمثل الواقع فنياً، فإن أرسطو كشف عن فاعلية هذه القوة بوصفها طاقة فكرية كامنة تنبثق مع محاكاة أي موضوع، فتضيف من العقل إلى الواقع جاعلة إياه جديداً ومبتدعاً ينفلت عن الأصل ولا يتقيد به.
واختزال التفكير السردي في موضوع يتم تخيله إنما يكون بتأويله على وفق ثلاثة احتمالات؛ فهو قد يكون متخيلاً كما يكون في الواقع الحاضر أو كما كان من قبل في الماضي أو كما يتوقع أن يكون في المستقبل. وظل قانون الاحتمال الأرسطي على مر العصور وإلى اليوم يفسر عملية الإبداع الفني على هذه الشاكلة، سواء أكان هذا الإبداع مشكّلاً بالكلمة أم باللون أم بالحركة أم بالصوت..الخ.
ولا عجب في أن يكون «السرد غير الواقعي» لصيقاً بالإنسان وفي الوقت نفسه غير لصيق بواقعه، لا لشيء سوى أن الإنسان - وليس الواقع - هو رهان السرد، ومن ثم تتسع آفاق التخييل في المحاكاة ويظل الإنسان فاعلاً ًسردياً ينقل فعل السرد أو يقوم بأدائه داخل واقع سردي متخيل وفضاء وحيوات عاقلة وغير عاقلة تنغمس لغوياً وتتحرك درامياً بحسب ما يريده السارد منها، في محاولة منه لخلق لحظة حاضرة وكل ما يتصل بها في ماضيها أو مستقبلها.
وأول إنسان قال سرداً هو أول من جمع الرؤية بالذهن فافترض بعقله ما لم تره عيناه، فكان أن صار حكّاء بالفطرة لا بالمعنى البايولوجي للفطرة كغريزة وإنما بالمعنى الفكري كموهبة تنم عن فاعلية عقلية، بها يتمكن الموهوب من إبصار ما لا يُبصَر، وإدراك ما لا يُدرَك. ووسيلته إلى ذلك كله (المخيلة ) التي تتطلب تمثيلاً واعياً يُصوَر إبداعياً بالكلام، مما لا يستطيعه أي فرد آخر يتكلم لغته ولا يمتلك موهبته. وكثيرون يعدون الفاعلية الإبداعية المتمثلة بالتخييل والقص عملية تلقائية وليست مقصودة ومن ثم يقللون من شأن بواكير السرد القديم واصفين إياها بالبدائية، شاطبين على أهم ميزة تتخلَّق بها وهي العقل الذي به نظَّم الإنسان شؤون حياته. ومن صور التنظيم (الحكي) الذي صار أساساً من أساسات تشكل حياة أية مجموعة بشرية تتحلّق حول حكّاء وتنقاد إلى حكيه، فيوجهها إلى ما فيه خيرها ومتعتها.
ولقد بدأ الفعل السردي مع اجتماعية اللغة التي فيها عبّر الإنسان عن نفسه وعن مجموعته ، محاكياً واقعه تارة كما يراه بعينيه، مجسِّداً إياه وقائعياً وتارة أخرى كما يراه بعقله مجسِّداً ما يراه تخييلياً. ومنذ ذلك الوقت والتخييل تفكير لا يصاحبه قياس منطقي ولا يطاوعه احتجاج أو استدلال استقرائي لأنه أوسع من ذلك كله وأبعد.
وخرافية المرويات البشرية الأولى تعني طاقات العقل البشري التخييلية الهائلة التي امتلكها إنسان العصور الغابرة، فكان يفكر خيالياً في ما هو واقعي، محاكياً المرئي الذي هو حاضر، متخيلاً إياه غائباً وغير مرئي. ومن هنا نشأ الفهم الميتافيزيقي للحياة بالطقوس والأساطير التي هي مرويات حكائية في الأصل. وبتقدم العصور تشذبت الطاقة الحكائية لدى الإنسان بما فُرض على الحكاء من حدود في التخييل، ولعبت الكتابة دوراً في هذه الفروض التي غدت قواعد هي بمثابة تقاليد قولية تجلت في ما بعد في شكل قوالب صارت تُعرف بالأجناس. وبهذا أُسدل الستار على مرحلة انتهت هي المرحلة الشفاهية، وصارت للتخييل بمرور الزمان تقاليد فتحول من صورته الحكائية إلى صورة نثرية قصصية فيها الكتابة السردية ذات أعراف وقوانين.
وصار الحكاء سارداً يروي ما يفترضه فكره التخييلي من احتمالات يوازن فيها بين محاكاة المرئي الواقعي وغير المرئي التخييلي من خلال لغة الإبداع الأدبي التي صار لها هي الأخرى محددات تقليدية، بها يتميز النص السردي عن الشعري، ويفترق الأدبي عن الديني. أما الفكر فظل على صورته الحرة حيث الطاقة التخييلية على أوجها، واللغة هي التي تتحدده بموجبات يفرضها الواقع الاجتماعي الذي فيه البشر على طبقات، ولكل فرد دوره ومن مجموع الأدوار تتشكل نظم الحياة على وفق أحكام وقوانين تطورت مع تطور البشرية وغدت اليوم منظومات اجتماعية ودساتير سياسية واستراتيجيات فكرية.
** **
- العراق