شيمة محمد فالح الشمري
تتميز تجربة الكاتبة زكية محمد العتيبي في مجموعتها القصصية (رسائل مبعثرة) بالرهان على البوح؛ باعتباره محرضًا من محرضات القول السردي، فإذا كان المؤشر الأجناسي المدون على عتبة الغلاف الأول - أسفل عنوان المجموعة - يُشير إلى أنَّ المدونة هي مجموعة قصصية؛ فإنّنا نلمح في (عتبة الإهداء) إشكالاً تجنيسيًا مضمراً، يظهر في قولها: «إلى الذين يؤمنون بأنَّ البوح الحر هو سجية الروح الحرة، لكلّ الذين ينأون عن تعليب الإبداع في القوالب الجاهزة»، تؤشر هذه العتبة إلى تمسك الكاتبة بالجنس الذي ترغب الكتابة فيه، وفي الوقت ذاته دعوة جريئة إلى التحرر من القيود التقليدية التي تقضّ سكينة هذا النمط السردي، ويظهر ذلك بوضوح تام في نزوع الكاتبة إلى ما يمكن تسميته بالبوح المتحرر من سلطة السرد، فإذا كان السرد في تنظيراته الأكاديمية يفرض التزامات عدة ترسم قيوده؛ فإنَّ البوح هو إطلاقٌ عفوي ينحاز للسجية والعفوية، وإطلاق حر للمخيلة؛ كي تذهب بالقول مذاهب شتى، ولعل قراءة المجموعة التي بين أيدينا تُظهر التزام الكاتبة بهذا النمط من الكتابة البوحية، وربما يكون المظهر الأبرز الناتج عن ذلك، هو ما نلمحه في التداخل الأجناسي المتعدد المُشَكّل للبنية السردية لهذه المجموعة الشعرية، والذي يمكن رصد تحولاته في الملامح الآتية:
الانحياز للشعرية
إنَّ مقارنة سريعة بين لغة القص ولغة الشعر نلحظ انحياز لغة القص إلى التكنيك الشعري، المتمثل في الانحياز إلى لغة شعرية غارقة بالمجازات والاستعارات، وهي خصيصة شعرية لا ننفيها عن لغة القصة، وهذه اللغة أقلّ انحيازاً إلى الأنماط التعبيرية، وربما تكون الوظيفة المرجعية هي العنصر الطاغي في مقولات القصة خلافًا للنص الشعري، ولو تأملنا البنية اللغوية في مجموعة رسائل مبعثرة لوجدنا تداخل لغة الشعر في لغة السرد، وبروزها بشكل واضح، ويمكن ملاحظة ذلك في الانحياز إلى التكثيف والإيجاز.
وبنظرة سريعة على عناوين القصص في المجموعة، سنرى سيطرة العنوان المكوّن من كلمة واحدة، كما في العناوين: (سلطة، ارتباك، رغبة، نرجسية، دهشة، تشبّث...)، ثم حضور العنوان القائم على المركب الإضافي: (سندبادها، غضب الرجال، لصوص نت)، وهذه الاختزالية تشي بتداخل مع التقنية الشعرية، فالكلمة المفردة هي كلمة يلفها الغموض، وفي كثير من الأحيان تترك القاصة هذا الغموض يلف النص السردي من غير فكّ رموزه بالطريقة المألوفة في السرد القصصي، فيكون هذا الغموض عنصراً في إثارة رغبة المتلقي في التأمل والبحث عن شفرات دلالية للنص، وهنا تنجح الكاتبة في تحقيق إشراك فعلي للمتلقي في حصاد اللذة الجمالية التي يبتغيها الأدب.
ومن أهم مظاهر الانحياز للشعرية عند الكاتبة التداخل الحاصل بين القصيدة والقصة، فثمة نصوص قصصية عدة كانت العتبة الأولى لدخول السرد القصصي، تتمثل بافتتاح النص بنص شعري للكاتبة نفسها، فيمثل الشعر بؤرة أولى لتشظي السرد، وانطلاقاتها المتنوعة، ففي عنوان: (اعترافات متأخرة) افتتحت الكاتبة النص ببيت شعري يشكل عتبة للسرد، تقول فيه:
(غيث يبلل قلبك الحاني
فيضيء وجهك للمحبينا).
وفي قصة: (أنثى العاصفة)، تبدأ القصة بالعتبة الشعرية التالية:
(أحنّ كثيراً لطيشي معك
وأفرح إذا ما الحنين أوجعك
لأنك مني... إليك أعود
كستك المشاعر ثوب الملك
أغث قلبي الصد مما جرى
حرمني حبك لذيذ الكرى
أسافر منك إليك أعود
بدعوى الأماني وتلك الوعود).
ولو تأملنا هذا التداخل الأخير لوجدنا تنازعاً يظهر علاقة وشيجة بين النص الشعري والنص القصصي على صعيد المقولة. أما العنوان ذاته: (أنثى العاصفة) فنجده عنواناً مناسباً للمقطع الشعري الذي شكّل عتبة القصة، كما أنه عنوان مناسب للقصة ذاتها، ومن هنا فإنّ بؤرة التوتر تمنح السرد شرعية في الوجود، تكمن في العنوان الذي يمثل اختزالاً دلالياً وعاطفياً معادلاً لمقولات النصّين الشعري والقصصي، وهنا تكمن براعة الكاتبة في زج المتلقي في لجة لغة سردية، توحي ببوح داخلي ومناجاة تستثمر كل الأدوات الممكنة؛ لإيصال السرد إلى برّ الأمان، وبرّ الصدق، القائم على ترك البوح يحلّق من دون قيود.
بين فن الرسائل وفن القص
ثمة استعارات تقنية لتوظيف أسلوبية فن الرسائل، تتداخل مع تقنيات القصة، وإن كانت الكاتبة تعي بذكاء هذا التداخل، إلّا أنّها أرادت من وراء هذا استثمار التقنيات في تقديم بوحها السردي، ويظهر هذا في القسم الأول من المجموعة القصصية، الذي شكّل ما يقارب نصف المجموعة القصصية من حيث الحجم، وقد حمل هذا القسم عنوان: «قصص قصيرة لتسع رسائل متعثّرة» والمتأمل في العنوان يجد تداخلًا بيّنًا في بنيته اللغوية بين الجنسين (قصة ورسائل)، وسيجد مبرراً دلالياً لأن تكون هذه العتبة الأولى هي العنوان المجموعة كلها، فالتركيب النعتي (رسائل متعثرة) تتحدد سماته المعنوية، وزخمه الدلالي من النعت (متعثرة)، فهي الموجّه الدّلالي لتحديد سمة الرسائل، والتعثر - وبما يشير إليه لغةً ودلالة - يوحي بخيبة في الوصول إلى الهدف، وهنا تبرز قيمته الدرامية ومسوغاته السردية.
ويتضافر لفظ (قصة) مع لفظ (تسع رسائل) في محاولات الكشف عن سمات التعثّر وأسبابه في رسائل تسع، وأهم ما اقتنصته من فن الرسائل يتمثل في ناحيتين رئيسيتين: الناحية الأولى تتمثّل في التوجه إلى الذات، عبر بوحٍ شعري وسردي يقوم على طرفين رئيسين، هما: مرسل الرسالة ومتلقيها، بكل ما يحمله هذان الطرفان من خصوصية، تُبرر البوح والاعتراف في الرسائل من جهة، وتدعم هذا البوح مع السرد مع جهة أخرى. والناحية الثانية تبرز عبر استثمار تقنية أسلوبية، تمثل سمةً رئيسة في فن الرسائل، هي أسلوب الخطاب الذي يقوم على متلقٍ مُحدّد، توجّه له الرسالة في لعبة فنية ذكية من الكتابة، وهنا تجيد الكاتبة بحنكة سردية العزف على الضمائر في هذا الخطاب، الذي يقومُ دوماً على أسلوب النداء، فيوجه إلى مخاطب، ثم يتحول إلى خطاب ذاتي عبر أسلوب النداء الموجه إلى (أنا) المتكلم.
وتتلاعب الكاتبة بالضمائر عندما تقدّم فرضيات متعددة لثنائية الإرسال (رجل/ امرأة)، فتارةً تعتمد أسلوب المؤنث، وتارة أسلوب المذكر، الذي يتحوّل فيه المؤنث إلى قارئ في نهاية الرسالة/ القصة، عبر استثمار مَا تحتمله الرسالة من ذاتية في البوح، وقدرة عالية في تحريض مشاعر الحب والحزن والخيبة.
ولو حاولنا تطبيق هذه السمات العامة، لوجدناه تنطبق على قصص الرسائل التسع؛ ففي الرسالة الأولى: (تشريني) يوحي هذا التركيب الإضافي بذاتيةِ إسناد الاسم إلى ياء المتكلم، فكل ما يحمله هذا الفصل من تقلبات وتبدلات مناخية انعكست على ذات الشخصية في القصة، ويبرز ذلك في العبارات الأولى للرسالة:
(في مساء ليلة تشرينية
وبعد فراقهما بثلاثة أعوام كتبت له
...)
فالتأمل البصري لتوزيع الجمل على البياض، يرى أنّ كل جملة من الجمل السابقة قد جاءت في سطر مستقل، وعلى هذه الطريقة في التوزيع على البياض تبرز هذه التقنية، وهو توزيع شعري قد يكون لا شعورياً أو مقصوداً، ثم تبرز التنوعات الدلالية والتبدلات النفسية التشرينية، عبر تناوب أسلوب النداء:
(أيها التشريني
أيها الصامت حد الصخر
يا صعب الإدهاش
أيها المتوقّد فيّ رغم هذا الانطفاء
يا هاجسي)
ثم تختم الكاتبة الرسالة بنداء موجه للذات: (يا «أنا» الذي أحياك)، الذي يوحي بتوحّد صوفي مع الآخر.
وبعد هذا السرد الذي يجعل المتلقي في بوح رسائلي عميق، تردّ الكاتبة السرد إلى نصابه القصصي، عبر التفات من ضمير المتكلم في فن الرسالة، إلى أسلوب الغائب في السرد القصصي، فتقول في نهاية القصة لا الرسالة:
(قرأ رسالتها
لمعت عيناه
ضحك سوادهما
ابتسم
تعباً وزهوّاً
مزّق رسالتها
ومضى)
والعنصر الأهم الذي يمثل هذا الأسلوب، والذي نلاحظه في قصص الرسائل الأخرى، وهو أسلوب الالتفات، عبر نقل السرد من أسلوب ذاتي إلى أسلوب المخاطب، أو العكس، وهو تقنية ولعبة فنية في نقل السرد، من سرد رسائلي إلى سرد قصصي؛ أي عودة القصة إلى نصابها وفك الاشتباك بينهما، ولولا هذه الحيلة الفنية، لما شكّ القارئ أنه أمام جملة من الرسائل ذات البوح الذاتي، وهذا الأمر منح الكاتبة قدرة فائقة على التجريب الحرفي، فاستطاعت التنقل بسلاسة بين هذين الجنسين؛ لتجعل من أحدهما مجرد تقنية ولعبة فنية، استطاعت أنْ تخدم السرد، وأنْ تنقله إلى عوالم متنوعة، تجعلُ من ضمير المتكلم ضميرَ القارئ؛ لتحرك مشاعره وتُصعّد من قيمة السرد.
بين البوح السردي والاعترافات
تستثمر الكاتبة من جنس المذكرات السير ذاتية ما يمكن أن يمثل تقنية أو لعبة فنية في شد المتلقي نحو اعترافات وجدانية، تشكّل المشاعر الإنسانية النبيلة جوهرها وبؤرتها السردية، وقد استطاعت الكاتبة تغليفها بأسلوب شعري يتناسب مع تقنية البوح الذي تشي به الرسائل، ومن هنا فإننا نقرأ في قصص الرسائل، العناوين الآتية: (اعترافات متأخرة، أنثى العاصفة، صباحات مسافرة، ابتسامة عطر، قلب بين ضفتين، براءة، كاتبة) التي نلحظ فيها خيبات شخصيات الرسائل العاطفية والإنسانية، ارتدت فيها الكاتبة ثوب الحكمة في القبض على لحظات إنسانية هاربة، يتّحد فيها الذاتي مع الشعري، وربما تمثّل نهاية قصة: (ابتسامة عطر) مثالاً دالاً على ذلك، فتقول:
(كان هو على الضفة الأخرى، يمرّ بتجربة حب فاشلة للمرة الثالثة، خشي أن تكون هي رابعتهن بعد لفظة (يا صديقي)، التي جاءت في رسالتها. كان في غنىً عن مشاعرها البائسة، فقد «نقّل فؤاده حيث شاء من الهوى»).
فقد ختمت الكاتبة القصة بشطر شعري شهير لأبي تمام، هو من النهايات المختلفة التي تبتكرها الكاتبة، فمن غير المألوف أن تنتهي القصة التي تقوم بنيتها على أسس منطقية، تفضي المقدمات فيها إلى نتائج منطقية، نهاية شعرية، لكن الكاتبة استطاعت أن تنقل الشطر الشعري من منطق الشعر إلى منطق السرد، فأضفت على الشعري منطقية سردية، تصلح لأنْ تكون نهاية منطقية لرجل تجوّل في كل مسارب العشق، ممّا أغناه عن مشاعر الشخصية البائسة كما وصفتها الكاتبة، في تناقض صريح مع المعنى الذي أراده أبو تمام في الشطر الثاني للبيت المذكور (ما الحبّ إلا للحبيب الأول)، لقد استثمرت الكاتبة التناص بحرفية عالية، عبر نقل الشطر الأول من أسلوب المخاطب إلى أسلوب الغائب الذي يخدم السرد، وعبر التّخلي عن الشطر الثاني الذي يتناقض مع الحالة المسرودة، ثمّ خفّفت من الشعري في الشطر ليتحوّل إلى أسلوبٍ منطقي مضمخ بالعاطفة ودالٍّ على التخلي، عبر تنقل حقيقي لا تخلو خيبة الأمل من طرف آخر قد ينتظر أن يتوقف هذا الفعل.
ولا شكّ أنّ الكاتبة زكية محمد العتيبي قد استطاعت استثمار تقنيات أسلوبية من أجناس فنية متنوعة، في صياغة سردياتها القصصية، وحاولت تخليص السرد من منطقيات قد تأسره لتجعله حرّاً طليقاً، فالكاتبة ترى في الكتابة محاولة في التحليق والطيران للوصول إلى مناطق مختلفة وجديدة، ولا شك أنّها وُفّقَتْ كثيراً في رسائلها المبعثرة صياغة وفنّاً وحنكة.