د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
أما العنوان الرابع الذي جاء في كتاب النحوي القدير الأستاذ الدكتور/ محمد عبدو فلفل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) فهو (نظرية العامل ليست لخدمة المعنى دائمًا).
بيّن أهمية نظرية العامل في النحو العربي واشتغال المعنيين بها قبولًا أو رفضًا، ولاحظ أن غير واحد من أنصارها المتمسكين بها مثل كريم الخالدي يقرون بما في بعض أصولها من افتعال وتكلف يدعو لإعادة النظر في بعض مكوناتها. ويقفنا على صنيع النحويين، فهم، مع إقرارهم بشذوذ ظاهرة ما، جعلوا لنظرية العامل حتمية مزعومة وشمولًا مفتعلًا يعاند طبيعة العلوم الإنسانية التي ليست بحتمية ولا شاملة؛ إذ أصروا على إخضاع كل مكونات المدونة اللغوية العربية لمقتضى نظرية العامل، وإن أدى هذا إلى تشويه معنى التركيب أو إفساده، ويضرب مثلًا بقول الفارسيّ في العامل في المنادى «ثبت أن العامل فيه الفعل إلا أن ذلك الفعل مختزل غير مستعمل الإظهار؛ لأنك لو أظهرته لكان على الخبر ومحتملًا للصدق والكذب ولو كان كذلك لبطل هذا القسم من الكلام وهو أحد المعاني التي تجري عليها العبارات»(المسائل العسكرية، ص11)، وعلق على هذا بأنه تحليل معاند للمعنى بل هو صناعة نحوية عاملية.
ومثل ذلك تحليل ابن جني تركيب (اختصم زيدٌ وعمرٌو)، فهو يرى أن التركيب كأنه في الأصل (اختصم زيدٌ واختصم عمرٌو)؛ لأن العامل في المعطوف غير العامل في المعطوف عليه، ولكن إظهار الفعل المقدر مفسد للكلام؛ لأن فعل الاختصام لا يكون من أقل من اثنين، قال ابن جني «وعلة جوازه أنه لما لم يظهر الفعل الثاني المقدر لم يجب تقديره وإعماله، كأشياء تكون في التقدير فتحسن، فإذا أنت أبرزتها إلى اللفظ قبحت» (الخصائص، 2/ 426).
اكتفى أستاذنا بالمثالين السابقين ولكن يمكن أن نعد من ذلك ما جاء في شرح التسهيل لابن مالك (3/ 371) «نحو:{اسكن أنت وزوجك} و{اذهب أنت وربك} فزوجك وربك مرفوعان بـ(ليسكن وليذهب) مضمرين مدلول عليهما باسكن واذهب. والمحوج إلى هذا التقدير أن فعل الأمر لا يرفع إلا ضمير المأمور المخاطب». وابن مالك هنا يصرح بمقتضى الصناعة النحوية.
ومن إرادة الشمول مذهب كثير من النحويين في إعراب صيغة التعجب (أفعل به)، جاء في اللمع في العربية لابن جني (ص: 137) «نَحْو قَوْلك أحسنْ بزيد أَي مَا أحسنَ زيدًا وأجملْ بِجَعْفَر أَي مَا أجملَ جعفرًا؛ فالباء وَمَا عملت فِيهِ فِي مَوضِع رفع وَمَعْنَاهُ أحسنَ زيدٌ أَي صَار ذَا حسن وأجملَ أَي صَار ذَا جمال، كَقَوْلِك أَجْرَبَ الرجلُ أَي صَار ذَا إبل جربى، وأنجز أَي صَار ذَا مَال فِيهِ النجاز؛ فلفظه لفظ الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر». ومن النحويين من توقف في هذا التحليل، قال الزمخشري في المفصل في صنعة الإعراب (ص: 367) «وأما أكرمْ بزيدٍ، فقيل أصله أكرمَ زيدٌ أي صار ذا كرم، كأغدَّ البعيرُ أي صار ذا غدة، إلا أنه أُخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج على لفظ الخبر ما معناه الدعاء في قولهم (رحمه الله) والباء مثلها في كفى بالله. وفي هذا ضرب من التعسف. وعندي أن أسهل منه مأخذًا أن يقال إنه أمر لكل أحدٍ بأن يجعل زيدًا كريمًا، أي بأن يصفه بالكرم. والباء مزيدة مثلها في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} للتأكيد والاختصاص، أو بأن يصيّره ذا كرم والباء للتعدية. هذا أصله ثم جرى مجرى المثل فلم يغير عن لفظ الواحد في قولك: يا رجلانِ أكرمْ بزيد، ويا رجالُ أكرمْ بزيد».
وانتهى أستاذنا إلى أنه اتضح أن حصانة نظرية العامل أكرهت النحويين على تحليل بعض التراكيب تحليلات مخلة بالمعنى، وهو أمر حمل بعض المحدثين إلى الدعوة إلى تجنب التأويلات أو الأعاريب التي تفسد معاني هذه التراكيب.