قسّم سيجموند فرويد العقل إلى الوعي واللاوعي، وقال إن تجاربنا الشخصية منذ بداية حياتنا هي من تحدد هويتنا ورغباتنا الدفينة التي لا نفهمها أحياناً ولا نعرف أسبابها، ولذلك نقوم عبر الوعي بفلترة رغبات اللاوعي، لأننا نتسامى على رغباتنا التي لا يتقبلها مجتمعنا ونتصرف بمسؤولية أخلاقية في الغالب، إضافة إلى أننا لا نعرف من ذواتنا سوى 10 % فقط هي التي نعتقد أنها تمثل هويتنا الحقيقية. ويقسم فرويد النفس إلى ثلاثة أقسام هي: (الهو)، (الأنا)، (الأنا العليا) لتكون (الأنا) هي ضابط إيقاع (الهو) و (الأنا العليا) حتى لا نكون مضطربين نفسياً، وبعيداً عن هذه التقسيمات فإن أكثر ما يهمنا في هذا المقال هو العقل اللاواعي الذي يعمل من أجله كل الإعلام الموجه (البروباغندا) في العالم أجمع، عبر التركيز على القوة الناعمة التي نظّر لها رئيس الاستخبارات الأمريكية الأسبق جوزيف ناي عام 2004م، ومنذ ذلك الوقت والإعلام الموجّه الذي هو جزء كبير من القوة الناعمة يستهدف اللاوعي لدينا ليتحكم بنا دون شعور منا. هذا التوجيه الإعلامي أصبحت الشركات تمارسه أيضاً، فتجذبنا باتجاه منتجاتها وخدماتها عبر الإعلانات التجارية التي تمرر من خلالها عدة صور وعبارات تزرعها في اللاوعي لدينا فنحب علامتها التجارية ومنتجاتها، ولو كنت أعمل في مجال التسويق لدى شركة ما فإنني سأركز على تقديم الإعلان التجاري بما يتجاوز محبة العلامة التجارية والولاء المنتظم لها إلى تسويقها والدفاع عنها من قبل العميل نفسه، وبذلك سيكون العميل بولاء مطلق وأداة تسويق أيضاً عبر استراتيجية مخطط لها تعمل مع كل العملاء.
من هنا ندرك أهمية كل تفصيل من المدخلات التي تدخل في اللاوعي لدينا، فهو قادر على جمع ملياري معلومة في الثانية بينما الوعي لدينا يستطيع جمع ما يتجاوز سبع معلومات فقط كما صرح بذلك أستاذ علم النفس بجامعة هارفرد جورج ميلر، لذلك فإن العقل الباطن يخزن كل شيء في كل لحظة، ومنها تتشكل هويتنا التي لا نفهمها أحياناً، لذلك من الذكاء أن يكون الإنسان انتقائياً في كل شيء لا أن تكون حياته بلا خطة استراتيجية وخطط تفصيلية، فمن لم يكن لديه خطة فإنه سيكون مجرد أداة ضمن خطط غيره، وبذلك يصبح على الهامش ويصبح غيره من خلاله هو المهيمن عليه كما يفعل مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي بالمساكين من متابعيهم على سبيل المثال، فمتابعيهم مجرد أدوات يستخدمونها للوصول إلى ثرواتهم وشهرتهم بينما يبقى المتابع على الهامش لأنه بلا خطط ولا هدف فيكون ضمن خطط وأحياناً ألاعيب غيره به.
لعل هذا المدخل يبسط لنا كيف تم العبث بأدمغتنا في مسألة بغض الكتاب والتخوف منه وتسطيح أهميته سواءً من خلال المقولة الشائعة التي تقول: (من كان شيخه كتابه ضل عن صوابه)، وبذلك يصبح أتباعهم يخشون قراءة الكتاب إلا عبر مرشد يعلمهم هذا الكتاب، والمرشد لأي كتاب بكل تأكيد سينتج نسخاً منه حافظين لا مفكرين، وفي جهة أخرى ظهر جهلة متطرفون في كره الكتاب في أيدي (العوام) كما يسمون الناس فيجزرونهم عن ذلك الفعل الخاطئ كما يعتقدون, ولذلك صار التحذير من الكتاب شغلهم الشاغل خصوصاً إن كان المؤلف من غير دائرتهم الضيقة، ولذلك هاجموا معرض الكتاب وطالبوا بالتدقيق على الكتب وما تحتويه من معلومات وتنظيرات وأطروحات، وهم بذلك يعززون في اللاوعي لدى من يثقون بهم كره الكتاب والخوف منه، وكل ذلك نستوعبه لأننا نعرف الأسباب والأهداف التي يرسم لها أؤلئك، ولكن مالا يمكن قبوله أن يكون كتاب النصوص الدرامية والمنتمين لهذا الفن مساهمين أيضاً في تعزيز كراهية الكتاب بل وتهميشه بشكل كبير جداً.
من خلال فهمنا لعمل اللاوعي لدينا ندرك أن السينما والدراما رسالة حقيقية إما أن تكون جيدة وإما أن تكون سيئة، وللكتاب قصة سيئة مع الدراما والسينما العربية، فهو لا وجود له أصلاً في الغالب، وإن تم توظيفه في الدراما العربية فإنه يوظف بشكل سيء, سأذكر مثالين فقط ولك عزيزي القارئ أن تحاول تذكر مشاهد على ذات الطريقة، مسلسل (خرج ولم يعد) من بطولة الفنان غانم الصالح رحمه الله تعالى كان هدفه الأصلي تشويه تعدد الزوجات، ولكن العمل أساء للكتاب وأظهره بأنه نكبة لقارئه, فالزوجة الأولى (غنيمة) التي قدمت شخصيتها الفنانة حياة الفهد، كانت زوجة ثرية وساذجة بامتياز، فلم تستغل ثروتها للسيطرة على زوجها ونزواته تجاه النساء، وإنما لجأت للكتاب لتتثقف في طريقة كسب زوجها، فكانت النتيجة أن قادها الكتاب لتصرفات أكثر سذاجة دفعت زوجها (سليمان أبو الريش) إلى الزواج من الزوجة الثانية (دلال) التي لعبت دورها الفنانة سعاد عبد الله. هذا الطرح بالضرورة سيزرع في اللاوعي لدينا ازدراء الكتاب والتخوف منه ومما يطرح، بينما كان بالإمكان توظيف الكتاب في جوانب أخرى يحبب لنا الكتاب ويثير حماستنا له بشكل أكبر.
عمل آخر شوّه الكتاب وهو فيلم (علي بيه مظهر و40 حرامي) الذي مثل بطولته الفنان محمد صبحي، والذي اقتنى كتاباً عنوانه (كيف تصبح مليونيراً)، ولكن نصائح الكتاب أدت به إلى الجنون في نهاية الفيلم، ثم كانت الكارثة أن الكتاب قال له الآن ستنزل عليك الثروة من السماء، فنظر إلى السماء ولم ير شيئاً ثم نظر إلى الأرض فوجد نفسه في مزبلة فوجد الملايين مرمية في القمامة، فقام برميها من فوق جسر على الناس أسفل الجسر لأنه أصيب بالجنون الكامل, هل الكتاب حقاً بهذا السوء؟ وهل الكتاب فعلاً يقود صاحبه إلى الجنون أو الفشل؟ وهل الكتاب يقدم أطروحات سطحية وخرافية حتى أنه يوصلك لأهدافك بالخرافة والصدف؟ قد لا ننتبه أن اللاوعي لدينا قد خزّن كل تلك المعلومات ونحن نتابع، فنجد في أنفسنا كرهاً وازدراءً للكتاب دون أن نفهم السبب.
إن مجتمعاتنا العربية في الحقيقة تحتاج أن تتعرف على الكتاب، فهي في الحقيقة لا تعرفه ولا تعرف أهميته في الرقي بمستوياتنا الحياتية والاجتماعية والمادية أيضاً وخصوصاً مع الاقتصاد المنتج الذي تعمل على تحقيقه رؤية 2030، فالرؤية بنيت على التركيز على الإتقان في المهارات وزيادة مستوى الثقافة والاطلاع في تخصصاتنا، لأن ذلك سيساهم بشكل مباشر في ارتفاع مداخيلنا المالية وهذا يحتاج مقالاً لوحده.
إن الكتاب لدى المجتمعات العربية بفعل ما ذكرنا سابقاً شيء مجهول، وكل ما يعرفه عنه غالب الناس أنه شيء صعب الفهم ولو فهمناه فإنه المسؤول الأول عن انحرافاتنا الفكرية والعقدية, ومن العجيب أن مما لاحظته أن الغالبية إذا دار في رؤوسهم العلم والمعرفة اتجهت أدمغتهم إلى موضوعين فقط، عالم الحيوان أو الفيزياء والكون، ولعل ذلك يقودنا إلى أعماق اللاوعي لديهم والذي من المؤكد أنه يدور حول نظريتي داروين وخلق الإنسان والانفجار العظيم أو نشأة الخلق دون علم منهم باللاوعي لديهم.
يعتقد من لا يقرأ أن تأليف كتاب أو قراءة كتاب تحتاج عبقرية خالصة, لذلك هو يؤمن ألا جدوى من قراءة الكتاب لأنه لن يفهم ما بين دفتيه المليئة بالطلاسم والغرائب والعجائب التي ستقوده في النهاية إلى الانحراف أو الفساد أو الجنون، وبما أنه يعتقد أن المعرفة الأخرى (عالم الحيوان) هي الأسهل والأسلم فإنه يتجه إلى القنوات المختصة بعالم الحيوان التي ستمرر على اللاوعي عنده نظرية التطور بشكل أو بآخر دون علم منه، وهو يعتقد أنه بذلك يتثقف رغم أن ما يتابعه ويتعلم فيه لا يتعلق بتخصصه ولا باهتماماته، ولا يخدمه في مجاله.
إن الدراما أصبحت جزءاً أصيلاً في حياة المجتمعات العربية ولذلك أعتقد أنه يقع على عاتق الدراما العربية بشكل عام والسعودية بشكل خاص أهمية دعم الكتاب والترغيب في قراءته ونشر موضوعاته الرئيسية والفرعية التي هي بالآلاف، فهي ليست كما يعتقد الكثيرون أنها مجرد كتب دينية وعالم حيوان وفيزياء كونية، بل أتمنى أن يتم فرض نقاط خاصة في تقييم الأعمال الدرامية العربية التي تعين على قراءة الكتاب وتوضيح أهميته لدى المتلقي العربي.
** **
- محمد المسمار
@m_almismar