عدد كبير من الشعراء (الفصيح والعامي) الذين أعجبتني قصائدهم مع بداية طرقي لباب الشعر وقراءتي له (أيام المتوسط والثانوية والمرحلة الجامعية) طردتهم ذائقتي مع مرور الوقت, وبعضهم بقي فيها بصورته القديمة لم يتغير, وقلة منهم -ولا أظنهم يتجاوزون أصابع اليد- يسكنون فيها, ويزداد إعجابي بشعرهم كلما ازددت معرفة وتعمقاً في بحور الفن والجمال والإبداع, أجملهم وأعذبهم الذي قال:
«كتابة الشعر عذاب جميل, أما قراءته فعذاب أجمل».
الشاعر الذي غرد بالشعر في كل الاتجاهات وصدح:
«الشعرُ ليسَ حماماتٍ نطيّرُها
نحْوَ السماءِ، ولا ناياً، وريحَ صبا
لكنّهُ غضبٌ طالتْ أظافرُهُ
ما أجبنَ الشعرَ إن لم يركبِ الغضبا»
لا أدري متى سمعت بنزار لأول مرة, وما هي أول قصيدة قرأتها له, وما هي أول مقالة قرأتها عنه, وما هي أول أغنية من كلماته سمعتها, ولكن ما زلت أتذكر الأغنية التي كنت أذهب للجامعة على أنغامها حتى حفظتها وبالتحديد 2005م وتنبهت وقتها أنني أعيدها أكثر من مرة, ليس لجمال لحنها بل لجمال كلماتها:
«يدك التي حطت على كتفي
كحمامة نزلت لكي تشرب
عندي تساوي ألف أمنية
يا ليتها تبقى ولا تذهب
الشمس نائمة على كتفي
قبلتها ألفاً ولم أتعب»
أتذكر في تلك الأيام -التي بدأت تدخل إلى قلبي الأخضر «قصائده المغناة» كالفراشات الملّونة وبدأت أغازل بها من أحب- أنني اشتريت من مكتبة مطار الملك خالد كتاباً بعنوان:
«أجمل قصائد نزار قباني» وبدأت أتصفحه في أجواء المطار الشاعرية وكأنني في نزهة صيفية تحت رذاذ مطر بيروت, فوجدت اللغة التي أبحث عنها, لغة القصيدة الفصيحة الحيّة (أزهار الليمون, وسنابل القمح, ورغوة الثلج, والشذى, والعطور, والشاي, والقهوة السوداء, والشراشف البيضاء, والشفق الفستقي ..) وأنا الذي للتو خرجت من أجواء كليتي بعدما تلقيت على مضض مفردات الشعر الجاهلي (عقنقل, السجنجل, المتعثكل, ربرب, مرقال, العثنون..) من أساتذتي الذين قلت عنهم ذات مرة: يخيّل إليّ عندما أسمع لغتهم وفصاحتهم أنهم قدموا إلى رحاب الجامعة على حومل امرئ القيس ومطيّ طرفة بن العبد ..
حقيقة كنت وما زلت أغبط أساتذتي وزملائي في كلية اللغة العربية الذين تشربوا الشعر الجاهلي في سن مبكرة, واستوعبوا مفرداته وقت دراستهم الجادة دون الرجوع إلى المعاجم وإلى ما قاله الزوزني أو التبريزي أو الأنباري أو النحاس..
وكم أنا مدين للأديب أ.د.عبدالعزيز بن محمد الفيصل الذي شرح المعلقات العشر بأسلوب قل نظيره في
كتابه الثمين (المعلقات العشر) وهو من أثمن الكتب التي تتزين بها مكتبتي، ومن الكتب التي لا يمكن أن أستغني عنها..
ولكن لست مع تصور بعض أساتذتي أن الشعر يكون مع طرفة والأعشى والنابغة أو لا يكون, وأن اللغة هي لغتهم.
فالشاعر الشاعر بنظري هو الذي فتح أبواب القلعة الحجرية للجمهور ..
في كتابه الجميل (نزار قباني أمير الحرية وفارس العشق) يقول د.حسام الخطيب :
«إطلالة نزار على عالم متذوقي الشعر كانت إطلالة باهرة، أي إنه أبهر الناس إلى درجة أنه يمكن للمرء أن يزعم أنه مع مرور الخمسينيات لم يعد بمقدور أي شاب أن يتغزل بفتاة دون أن يستعين بأشعار نزار».
وهنا لا بد أن أتساءل:
كيف استطاع ذلك الفتى الدمشقي -الذي ينحت من القمر والشمس والنجوم قصائده- أن يكوّن بعبقريته «لغة ثالثة» تأخذ من الفصحى فخامتها وهيبتها ورصانتها, ومن العامية بساطتها وحرارتها وفتوحاتها الجريئة..
معظم النزاريين الذين أعرفهم يتأملون بعيون الدهشة قصائد بحرهم الأبيض التي تحلق في السماء على شكل غيمات حمراء وخضراء وبنفسجية وذهبية, ويغنون تحت مطرها وبرقها ورعدها «فالصمت في حرم الجمال جمال», ولكنهم لم يلتفتوا إلى نثره الذي يوازي شعره..
في جلسة قصيرة مع الشاعر اللبناني الكبير شوقي بزيع دار الحديث عن كتابه الجميل «مسارات الحداثة» وعمَّا كتبه عن نزار بالتحديد, وهذه مقتطفات قصيرة مما كتبه:
«-إنه لمن الظلم بمكان أن يحاول بعض الشعراء والنقاد المعاصرين نفي صفة الحداثة عن نزار قباني أو طرده من جنتها المزعومة فالحداثة لا تحصر في تعريف واحد..
-حداثة نزار تقوم على خطين «تحرير لغة الشعر من صنميتها وتكلسها المرضي ..وتحرير الجسد..»
-الصور عند نزار تملك قدراً عالياً من التمرئي على شاشة المخيلة, فكل قصيدة من قصائده هي وليمة كاملة من الحواس يتداخل فيها المرئي بالمسموع, والمشموم بالملموس والمتذوق, وتتبادل كل منها الأدوار مع الأخريات كقوله: «تخيلت حتى جعلت العطور ترى» أو «ففي الظل يغدو لعطرك صوت».
وبينت لشوقي إعجابي الكبير بنزار وبكل ما كتب, وقلت: ربما هو الشاعر الوحيد الذي أحفظ عبارات من نثره كما يحفظ المتذوق أشعاره.. ومنها:
«كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً, كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة, وإذا سقطت أسقط على حضن وردة».
«إنني أكتب الشعر ولا أدري كيف .. كما لا تدري السمكة كيف تسبح, ولا العصفور كيف يطير».
«في لبنان يتحول حبري إلى ضوء مسموع, ودفتري إلى عطر مقروء».
فاختصر الحديث بعبارة نسبها لـ ت س. إليوت:
«كل شاعر كبير هو بالضرورة ناثر كبير».
أما قصة إعجابي بنثر نزار فبدأت بعدما قرأت بالصدفة في أحد المنتديات الكلمة التي ابتدأ فيها أمسيته في السودان1970م فأذهلتني وأطربتني لدرجة أنني طبعتها وما زلت أحتفظ بها.. وبعد مدة قصيرة سمعت أستاذي وصديقي الأقرب د.خالد الرفاعي صاحب الذائقة المختلفة في إحدى الجلسات التي جمعتنا يشيد بلغة نزار النثرية وينصحني بقراءة كتابه «قصتي مع الشعر» فبدأت أبحث في معارض الكتب والمكتبات عن كل كتاب فيه اسم نزار عن كل ما قاله, وعن كل ما قيل عنه, حتى حصلت على (الأعمال النثرية الكاملة) لا أدري كم مرة قرأت هذا الكتاب الذي تبلغ صفحاته 500 صفحة, ولا أدري كم مرة تأملت اللغة الفاتنة والشعر الذي يجري بين الأوراق, وكم مرة توقفت أمام وصف الشاعر المدهش للبيت الدمشقي الذي ترعرع وسط عطره:
«بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح ويبدأ الإسراء على الأخضر والأحمر والليلكيّ وتبدأ سمفونية الضوء والظّل والرخام، شجرة النارنج تحتضن ثمارها، والدالية حامل والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ..وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء، وتنفخه، وتستمر اللعبة المائية ليلاً ونهاراً لا النوافير تتعب.. ولا ماء دمشق ينتهي..»
ما أجمل اللغة النزارية وما أجمل هذه التفاصيل الصغيرة التي يسردها على شكل قصيدة:
«أستطيع أن أغمض عيني, وأستعيد بعد ثلاثين سنة مجلس أبي في صحن الدار, وأمامه فنجان قهوته, ومنقله, وعلبة تبغه, وجريدته.. وعلى صفحات الجريدة تتساقط كل خمس دقائق زهرة بيضاء..كأنها رسالة حب قادمة من السماء..»
وما أروع هذه الفلسفة الشعرية التي تدل على شاعر حقيقي انغمس في تجربته وأخلص لفنه:
«الورقة التي أسجل عليها شعري يجب أن تكون مساحة زرقاء أو وردية، لأن حياد اللون الأبيض يقتلني. إن الكتابة على ورق أزرق أو أخضر يمنحني الإحساس بأنني أكتب على سماء صيفية، أو على زرقة خليج، أو على غيمة. أما الورق الأبيض فيوحي لي بأنني أكتب على جدار مقبرة..»
وما أجمل هذه الرسالة التي تدل على كاتب وشاعر يعلن بكل وضوح أنه لا ينتمي لزمرة الكتاب والشعراء البوهيميين الذين ابتليت بهم الساحة الأدبية في كل الأقطار وكل العصور: الكتابة تتطلب من الكاتب أن يكون في أعلى مراحل المسؤولية, والبصيرة, والمعرفة بما يفعل.. بل قال لهم بكل وضوح:
«أما الكحول, كمصدر مزعوم من مصادر الإبداع فقد كنت أرى فيها عامل إعاقة وهبوط لا عامل توهج وصعود».
وكأنه أرد أن يقول يا جماعة نزار الذي لا تتقيد قصائده بالإشارات الضوئية ولا بالخطوط الحمراء العريضة هو في عالم الواقع (منضبط وملتزم) وهذا ما تؤكده ابنته هدباء في كتاب آخر:
«حياة أبي منضبطة كساعة سويسرية, مكتبه منظم, أوراقه منظمة, يجلس خلف طاولته في الصباح بكل قيافته ويشتغل على قصيدته كما تشتغل النحلة في بناء بيتها.. يتعامل مع القصيدة كما يتعامل صائغ الجواهر مع الحلي. وعندما تنتهي القصيدة يرفع يديه إلى السماء ليشكر الله على نعمته, فهو مؤمن أن الشعر مطر يجود به الله على النخبة الموهوبة من عباده..»
تغريدة:
حينما تأملت ما قاله: «هي من فنجانِها شاربةٌ / وأنا أشربُ من أجفانِها»
تذكرت ما قاله: «الأدب عندي تعبير غير عادي عن مشاعر عادية».
** **
- عبدالعزيز بن علي النصافي