د.محمد بن عبدالرحمن البشر
مؤلم حقاً ما يحدث في السودان الشقيق، فالسودان أرض النيل والخصوبة، سلة غذاء العالم العربي المنتظرة منذ عقود، التي لا يمكن تحقيقها دون سلام ومجهود، وما زال أهل السودان والعالم العربي يأملون في حرث الأرض بعد صمت المدافع، وجني الثمر بعد أفول أهل المنافع، الذين تنقلوا بين الشعارات، ورفعوا لها الرايات، وأشغلوا أهل السودان بها، وألبسوها الحلل لتزداد بهاء، فعاش الناس في وهم الرجاء، وتركوا الأرض عذراء، لا كد ولا ري بماء، والنيل ينساب في كبرياء، دون أن تتم الاستفادة منه استفادة بقدر كاف.
النيل ذلك العملاق العظيم الذي جرى وما زال يجري منذ خمسة ملايين سنة، قادماً من فرعيه الأبيض والأزرق ليلتقيا في الخرطوم، النيل الأبيض المتدفق من بحيرة فيكتوريا، والنيل الأزرق القادم من بحيرة تانا في إثيوبيا والذي يشكل أكثر من ثمانين في المائة من مياه النيل، هذا الممتد كالثعبان ليقطع أكثر من ستة آلاف وستمائة كيلو متر، ليكون مع نهر الأمازون أطول أنهار العالم، وأجملها وأبهاها، وأكثرها نفعاً لبلاد يقل فيها سقوط المطر، جعل من السودان ومصر بلدين يحفلان بمميزات نسبية فائقة، وبنيت على ضفافه واحدة من أعرق حضارات العالم، وما زالت آثار تلك الحضارة الباقية شاهدا على متانتها سواء في مصر، أو شمال السودان حين كان الكوشيون يمثلون ثقلاً حضارياً وعسكرياً قبل الميلاد بمئات القرون.
وإن كان لي حق أن أستعير عجزاً من بيت لأبي نواس لأسقطه على ما يحدث في السودان، فهو ذلك العجز الذي يقول فيه: (والنيل مع جوده فيه التماسيح) نعم إن النيل يجود بثروات هائلة، وأهله جيدون، ولكنها التماسيح السودانية وغير السودانية، التي تعيق الاستفادة الكاملة منه، أما الشعب السوداني الكريم فقد عرف عنه الطيبة والكرم والتآخي والتآزر، والتسامح، وربما أنه في حاجة إلى من يديره بطريقة تفجر طاقات شعبه الكامنة، واستغلال ثرواته الهائلة.
أذكر أنني قبل أكثر من ثلاثين عاماً أتيح لي أن أزور السودان ضمن وفد رسمي، وكان رئيس الوزراء آنذاك هو الصادق المهدي- رحمه الله-، وقمنا بزيارة إلى ولاية الجزيرة، واطلعنا على ذلك المشروع الجيد، لكن جداوله كانت مليئة بالطمي، الذي كان عائقاً دون تدفق الماء بقدر كاف، وكانوا يشتكون من ذلك، لكن الشكوى لا تحل مشكلة، إذا لم يكن هناك معاول أو آلات تزيح الطمي، فيزيد الزرع، ويدر الضرع.
لقد اقترحوا علينا زيارة مقر الحزب الحاكم، لأن رئيس الوزراء سوف يلقي خطابًا، لكن الحديث كان كله منصباً على المناكفات الحزبية، والجدل الإيدلوجي، ولم يكن لخطط التنمية نصيب، ويبدو أن هذه واحدة من مشاكل السودان، وهي الانشغال عن التنمية بالسياسة، والجدل الحزبي والإيدلوجية، ويكون الاصطفاف حول هذا الحزب أو ذلك مبنيا على تلك المعايير، وليس التنمية، وزيادة دخل الفرد، وزيادة معدل النمو الاقتصادي، كما فعلت الصين حيث ثبتت النظام السياسي، ودفعت بالتنمية إلى الأمام، حتى أن معدل النمو الذي كان معلناً رسمياً قبل عشرين عام يحوم حول ثلاثة عشر في المائة، وقفز معدل دخل الفرد بدرجة كبيرة، وبسرعة فائقة. وهو معدل النمو اليوم حول خمسة في المائة، وليس هناك مانع من انطلاقة السودان كما هي الصين لو كان التركيز على التنمية.
اليوم تروى أرض السودان بدماء أبنائه، لتنبت الأحقاد، والكراهية، والتفرقة، بدلاً من ري تلك الأرض الطيبة الخصبة بمياه النيل المطرية الحلوة، لتنبت كل ما لذ وطاب من زروع وأشجار، فالأرض صالحة لزراعة الأنواع المختلفة من الخضراوات والفواكه والمحاصيل، ومع ذلك فالسودان يستورد أكثر من سبعين في المائة من حاجته من القمح، وهذا أمر يستحيل قبوله، فهو يستنزف العملة الصعبة الشحيحة أصلاً، ويجعل البلد رهينة لغيره.
كان زعيما الطرفين معاً ينعمان بقيادة البلد، وكل منهما لديه ما يكفي من رجال وعتاد، ولديهما اتصالاتهما الخارجية، والشعب علق عليهما الأمل في الدفع بالبلد إلى الأمام، لكن مع كل أسف تسارعا معاً في هدم بناء الثقة وهي الركيزة التي تبنى عليها الحياة، وأصبح الشعب السوداني الكريم يبحث عن وسيلة للبقاء على الحياة، هرباً من طلقة نارية طائشة، أو شظية عابرة، ويسعى لسد رمقه، بعد أن أخذ الجوع يداهمه، ومنهم من تهدمت داره، وسلبت أغراضه، وأخذ يشم رائحة البارود، بدل نسيم النيل العليل، ولم يجد الجريح من يضمد جراحه، والمرضى لم يستطيعوا الوصول إلى المشافي، وإن وصلوا فالأدوات محدودة، ومعظم الأدوية غير موجودة.
والأهم من ذلك إلى أين تتجه السفينة، وأي ريح تدفعها، وماذا سيكون مصير ركابها، وربما يقفز الربانان إلى سطح قارب، أو قاربي نجاة، احضرا لهما، ليحملاهما إلى وجهة أخرى، ربما ليعودان من جديد، أو أحدهما إلى قيادة السفينة، أو يختاران أو أحدهما ربانا آخر يمثلهما، وفي الختام نرجو للسودان والشعب السوداني الشقيق كل سلامة وخير، وأن يتجاوز هذه المحنة بأقل الخسائر.