د. عبدالحق عزوزي
تعتبر وكالة فيتش أولى ثلاث وكالات دولية كبرى للتصنيف الائتماني إلى جانب ستاندر آند بورز وموديز، وهي شركة فرعية مملوكة بالكامل لشركة هيرست؛ وقد تأسست الشركة من قبل جون نولز فيتش في 24 ديسمبر 1913 في مدينة نيويورك باسم شركة فيتش النشر، واندمجت مع شركة IBCA المحدودة ومقرها لندن في ديسمبر كانون الأول عام 1997؛ ويتمثل النشاط الرئيسي لفيتش في تقييم قدرة الدول على سداد ديونها من خلال منحها درجةً تتمثل بحروف... وتعتبر درجة «إيه إيه إيه» الأفضل، أي ائتمان بجودة قصوى، وتُعتبر درجة «سي» أو «دي» الأسوأ، وتشير إلى احتمالية التخلّف عن السداد بحسب الوكالات.
ومنذ أيام، أعلنت وكالة فيتش في بيان خفض درجة فرنسا للتصنيف الائتماني إلى -AA، فيما أبقت على تصنيف المغرب عند «BB+» مع نظرة مستقبلية مستقرة.
ويأتي القرار بشأن فرنسا على خلفية التوتر الاجتماعي الشديد حول إصلاح نظام التقاعد... وتضمن بيان للوكالة الذي أعلنت فيه خفض تصنيف فرنسا درجة واحدة «ايه ايه سلبي» -AA أن «الجمود السياسي والحركات الاجتماعية (العنيفة أحياناً) تشكل خطراً على برنامج (الرئيس الفرنسي إيمانويل) ماكرون للإصلاح».
وقبل شهر ونصف، تبنت الحكومة الفرنسية بشكل نهائي مشروعها لإصلاح نظام التقاعد الذي ينص على رفع السن القانونية من 62 إلى 64 عاماً؛ واستناداً إلى المادة 49-3 من الدستور، تم تبني النص من دون تصويت في البرلمان... وأدى هذا القرار إلى تصاعد الاحتجاجات وأيام من المظاهرات العنيفة في جميع أنحاء البلاد.
وأوضحت وكالة فيتش التي ربطت تصنيفها السابق بآفاق سلبية، إن «هذا القرار أثار احتجاجات وإضرابات في جميع أنحاء البلاد ومن المرجح أن يعزز القوى الراديكالية والمناهضة للمؤسسة».
وتابعت أن المأزق الحالي يمكن أن «يؤدي إلى ضغوط من أجل سياسة مالية أكثر توسعاً أو الإطاحة بإصلاحات سابقة».
أما بالنسبة للمغرب، فقد قالت الوكالة إن تصنيف المغرب عند «BB+» يعكس سجلاً من سياسات الاقتصاد الكلي السليمة والإطار المؤسسي الذي دعم المرونة في مواجهة الصدمات... كما ذكرت أن التصنيف يعكس أيضاً تكوين مستوى دين ملائم، بما في ذلك حصة معتدلة من ديون العملة الأجنبية في ديون الحكومة المركزية، هذا بالإضافة إلى مخزون السيولة الخارجي المريح...
المغرب يحصد ما زرعه من سياسات اقتصادية دقيقة، ومن انفتاحه على محيطه الإفريقي والعربي والجهوي القائم على رابح-رابح، ومن إدماجه لكل الفاعلين في المجال السياسي العام، ومن تثبيت للثقة كقاعدة للحكم ولعلاقة الدولة مع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمجتمع المدني...
ومن أراد أن يعرف سر ما يجري في فرنسا فعليه أن يقرأ كتابات إيمانويل تود Emmanuel Tod الأخيرة، إذ يشرح مبدأ التسامي الفرنسي وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية؛ وبسبب هذا الاستعلاء الإيديولوجي والطبقي والمجتمعي، فرنسا لم تعد بخير؛ فهي تعاني اليوم من زمرة من المشاكل المستعصية: أزمة اليورو، الدين العمومي، تبعات الأزمات الاقتصادية، أزمات مجتمعية خطيرة، كما أن هناك أزمة قيادة في فرنسا وأزمة مؤسسات. وهي نفس العوارض التي كتب عنها علماء التاريخ في الثورة الفرنسية لسنة 1789، فالنظام الملكي سنة 1787 عانى من ظرفية اقتصادية خانقة أدت إلى نقص المواد الاستهلاكية الأولية والارتفاع الصاروخي للأثمنة، وفي 14 يوليوز 1789 وصل ثمن الخبز إلى أعلى مستوياته؛ في هاته الحالة، حاولت فرنسا استيراد تلكم المواد ولكن خزينتها كانت فارغة... الدولة الفرنسية كانت دائماً تعتبر نفسها دولة قوية فتنفق أكثر من مداخيلها، وكان لهاته السياسة نتائجها السلبية.
الدولة في تلك الفترة كاليوم لم تعد قادرة على إحداث التوازن المالي مع فارق بسيط هو أنه في تلك الفترة كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الربع الذين يطعمون خزينة الدولة، أما اليوم فالدولة تخضع سياسياً لنخبة من السياسيين... وحسب العديد من المحللين النابغين، حكومة ماكرون ليست في الحركية السياسية الصحيحة وهي غارقة في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس، وهذا ما يقوض لا محالة السلم المجتمعي داخل البلد.