أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: حديثي في هذه الجمعة عن (جون ستيوارت مل) (1806-1873ميلادياً/أي 1227-1294هجرياً)؛ وإنما تلقى تعليمه عن أبيه الفيلسوف الذي هو أكبر مفكر إنجليزي في القرن التاسع عشر ميلادياً، وأعظم شيىء في حياته أنه استوعب العلم في وقت مبكر جداً؛ ولهذا قيل: إن معارفه تكبر سنه بربع قرن؛ وليس هذا بمستغرب؛ فقد وجدت ذلك في صغري وأنا العبد الضعيف كما في حياة أحب الناس إلي من العلماء؛ وهو الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى في صغره؛ فقد سبق زمانه بأزمان.
قال أبو عبدالرحمن: إن (جون ستيوارت مل): هو رائد الفلسفة التجريبية الحديثة التي قامت على أنقاض الفلسفة التجريبية القديمة التقليدية؛ وكان رائدها (دافيد هيوم).. لم يمتهن (مل) الفلسفة على أنها لذة عقلية؛ وإنما احترفها أداةً للمنفعة؛ فقرب لغتها إلى مدارك الناس؛ ولقد خرج بحكم تجربته على فلسفة العقلييين والحدسييين في القول بالأفكار الأولية الخالصة ذات، المعاني الفطرية، وقال: (كل معرفة عقلية تكتسب من الخبرة الحسية)؛ وكان في هذا مقتفياً (جون لوك)، و(دافيد هيوم).. وقال أيضاً: (إن الأعمال العقلية مجرد حركات آلية مردها إلى تداعي المعاني، وتراجعها).. ولقد غلا (مل) في نزعته التجريبية؛ فأخضع المعاني العقلية والمثالية لمناهج الدراسات العلمية التجريبية كالأخلاق والآداب والاقتصاد السياسي والقانون؛ ورد كل معرفة عقلية يقال: (إنها فطرية أولية) إلى الاستقراء التجريبي.
قال أبو عبد الرحمن: لست أرى صحة هذا الرأي؛ لأن للروح اشراقتها؛ كما أن العقل ملكة ذات وجود بالقوة لم تتهيأ أعمالها الموجودة بالفعل إلا وفق مبادىء فطرية أولية أودعها من خلق هذه الملكة؛ وهذا منبثق من إيماننا بأن العقل خلق الله؛ و(مل) فيلسوف ملحد؛ وأحمد الله أن الإمام العبقري أبا محمد بن حزم الذي تتلمذت على كتبه رحمه الله تعالى؛ وقد برهن على هذه المبادىء في مقدمة كتابه (الفصل) [قال أبو عبدالرحمن: قول بعضهم ( الفصل بالصاد الساكنة تنطع لا يصح أبداً] قبل أن يولد (ديكارت)، و(كانت)؛ ولقد حسب بعض من كانت ثقافتهم غربية محضة أن (مل) رائد في هدم المنطق الأرسطي، ولاسيما القياس المنطقي؛ وعذرهم أنهم لم يقرأوا الرد على المناطقة للإمام ابن تيمية رحمه تعالى؛ و(جون ستيوارت مل) يوجب أن يكون الإنسان حراً في وجدانه وذوقه وفكره والتعبير عن رأيه؛ كما أنه حر في تصرفه وإن كان هذا التصرف عن شهوة وعاطفة.. ومن الملاحظ أن فلسفة الحريات التي تبلورت في أوروبا أثرت تأثيراً مباشراً في نظام الحكومات والبرلمانات والمجالس الانتخابية؛ وكذلك اتخاذ الصحافة منهجاً للنقد؛ وكانت ذات أثر في قوانينهم الوضعية في جميع الأحكام التي يبنونها على التراضي؛ وهذه الفلسفات مهدت للدعارة والسفور والانحلال في أوروبا، وجاء (قاسم أمين) صاحب دعوة تحرير المرأة، ونفخ في بوق (مل) صاحب دعوى استعباد النساء.. ولا ريب أن هذه الفلسفات أفادت في ارتفاع حاسة الذوق الخلقية المبنية على مراعاة مشاعر الآخرين؛ وإنك لترى الأوروبي يمشي مترفقاً على أطراف قدميه إذا دخل عرضاً سينمائياً، وإنه ليحني ظهره ورأسه إذا مر بالشاشة؛ لأنه ليس من حريته أن ينغص متعة الآخرين.
قال أبو عبدالرحمن: إنني أرجع بعض محاسن الأخلاق في الغرب إلى جوانب الحرية المشروعة التي استعملوها، وأرجع مساوأهم وفسادهم إلى تخطي الحجز المشروعة؛ ولقد تفرع عن فلسفة الحرية مذاهب في الآداب النظرية، وفي السلوك، وما يسمى بالتمرد والرفض، أو التجاوز والتخطي عند الشباب من شعراء المقاومة من عرب بعثيين، أو شيوعيين، أو دروز مما تولد عن فلسفة (كارل ماركس) الدامية، وعن فلسفات الحرية؛ ويلاحظ أن (مل) داعية للاستعمار وإن لم يرد ذلك؛ لأن المستعمر الغاشم يمتص خيرات الشعوب، ويتحكم في مصيرها، ويفسد أخلاقها بحجة حمايتها من نفسها، والتقدم بها إلى الحضارة!!.
قال أبو عبد الرحمن: في هذه الفلسفة جوانب من الخير؛ والمفكر المسلم يجد فيها التقاأً في بعض النتائج، ولكن الخلاف أعمق؛ للاختلاف في المقاصد أولاً، ثم في الاختلاف في التأصيل ثانياً.. وإنني لأنقد فلسفته من تسعة وجوه على سبيل الاختصار:
الوجه الأول أن الحرية ليست قيمةً منطقية، أو خلقية، أو جمالية في نفسها، وليست برهاناً يستدل به، وليست ذات معطى يبرهن به ما لم تستند إلى القيم والبراهين؛ فلو قال لك أحدهم: أنا حر في فعل كذا؛ لقلت: ما برهانك على أنك حر؟؛ لأن الحرية ليست برهاناً في نفسها.. ولو قال لك أحدهم: لا يمكن أن يكون زيد حاضراً أو غائباً في آن واحد: لما طالبته بالبرهان؛ لأن الثالث المرفوع حتمية فكرية في نفسها؛ لهذا أقول: إن الحرية ليست خيراً في نفسها، وليست صواباً في نفسها، وليست شراً، أو باطلاً؛ وإنما تكون شراً وباطلاً إذا كانت الحجز خيراً وصواباً؛ فالحرية يشرع لها، ولكنها هي لا تشرع للناس؛ لخلوها من المعطيات في نفسها؛ فعلى مفلسفي الحريات بعد هذا: أن يدركوا خداع هذه الهالة التي يحيطون بها كلمة الحرية وكأنها إحدى القيم الثلاث التي تصاغ منها البراهين والمسوغات.. إنك قبل أن تقول (أنا حر في فعل كذا): يجب أن تثبت قبل ذلك بأنك محق، وأن فعلك صواب.. وقبل أن تقول أنا حر في بث هذا الرأي، والدعوة إليه: يجب أن تثبت بأن رأيك حق.. إذن الناس لا يطلبون شيئاً باسم الحرية؛ وإنما يطلبون الشيىء باسم الحق؛ ثم يطالبون بحرية الحق؛ لأن الحرية ليست ذات معطى في نفسها، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين