الإنسان مخلوق ضعيف قليل الحيلة؛ فحين يحزن ويضيق صدره لفقد عزيز لا ينطلق لسانه، وتظل كلماته في نفسه وبين جوانحه يمنعها الغم ويحبسها الضيق والكرب، ثم تبقى الذكرى تتردد في خياله فتثير شجونه وتوقظ الحزن في نفسه وعميق الأسى في قلبه.
ودّعت أسرة الجبر في الزلفي والرياض والكويت فقيدها وعميد أسرتها ورئيس مجلسها العم محمد بن داود سليمان الجبر، وللفقيد مكانته الكبيرة في نفوس الأسرة صغيرهم وكبيرهم؛ إذ كان أباً حانياً ومثلاً نقتدي به، ونستنير برأيه في شؤون أسرتنا وأعمال مجلسها؛ ولذا هممت على عجل بكتابة هذه الأسطر؛ للتعبير عما يجيش في الصدر مع يقيني أني لو كتبت عنه عشرات المقالات ما وفّته حقه وما أحاطت بكل مواقفه وأفعاله الكثيرة التي نسمعها من الناس، أما هو -رحمه الله- فما يتحدث بشيء عنها حتى لأولاده.
أدهشني والله ما فجعني، حتى حِرْت كيف أعزي وأنا حقيق بأن أُعَزَّى خاصة أنني منذ سنوات لم يمرّ بي رزءُ فَقْدٍ ولا أسى فراق - متع الله والديّ بالصحة والعافية-، لكنَّ فَقْد العم عزيزُ لَذَع في قرارة نفسي وترك فيها حزناً لا يفارقني، وتذكرت قول عبدة بن الطبيب التميمي في قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنهما:
وما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحدٍ
ولكنَّه بُنيانُ قومٍ تهدَّمَا
العم محمد صاحب الأيادي البيضاء، والسماحة والعفَّة والنزاهة ولد عام 1358هـ، وحصل على درجة البكالوريوس من كلية التجارة بجامعة الملك سعود في تخصص المحاسبة وإدارة الأعمال، ومن زملائه الذين درسوا معه الأستاذ إبراهيم بن عبدالله الخريف وأخوه عبدالرحمن، وسمو الأمير سلطان بن محمد بن سعود الكبير، ومعالي الدكتور محمد بن إبراهيم الجارالله وزير الشؤون البلدية والقروية سابقاً، والدكتور وابل الوابل ومعالي الدكتور جبارة الصريصري وزير النقل، وعاش حياة صعبة كحال أقرانه، وكان لوالده أثر كبير على مجرى حياته؛ إذ كسب منه الكثير من الصفات الحميدة، ومنها: حب أفراد الأسرة، وحسن التواصل معهم في السراء والضراء، والصدق في القول والعمل، والإخلاص، والأمانة في تأدية العمل فعاش حياة حافلة بالجد والاجتهاد والعطاء.
بدأ بمزاولة العمل الحكومي في وزارة المعارف (التعليم حالياً)، وتقلّد عدداً من المناصب الإدارية إضافة إلى رئاسة اللجان وعضويتها داخل المملكة وخارجها، وآخر أعماله إدارة المشتريات في الوزارة حتى الإحالة إلى التقاعد وفي إدارته أنجزت الوزارة أكثر مشاريعها من مدارس ومبانٍ، وبعد تقاعده عمل في كليه الأمير سلطان -رحمه الله- ثم انتقل من الكلية بعد تحويلها إلى جامعة إلى مؤسسة الرياض الخيرية للعلوم وهي المظلة الرئيسة للجامعة.عُرف عنه أمانته ونزاهته وضبطه لعمله؛ ولذا حظي بثقة معالي وزير المعارف آنذاك الدكتور عبد العزيز الخويطر وعيّنه مديراً للمشتريات مدة طويلة تزيد عن 13 عاماً -وهي أطول مدة يبقى فيها موظف في هذا المنصب- بالإضافة إلى تكليفه بإدارة الشؤون المالية أحياناً، وكان لا يجامل أحداً على حساب العمل حتى لو كان من أقرب الناس إليه، ومنحه الله المهنية في العمل والجدية في تطبيق الأنظمة حتى على نفسه، بل هو أول الموظفين في الالتزام بكل ما هو من شأن العمل، وكان يعطي العمل ما يستحقه من الجهد والتفاني، وكان وفيّاً لعمله، ولكل المهام التي توكل إليه، ولم يكن همّه الأضواء والإعلام طيلة 40 عاماً التي قضاها في خدمة التعليم والوطن، وكان مثالاً يحتذى في حفظ المال العام، ومما يذكر عنه أنه كان يفاوض الشركات بعد فوزها بالمنافسة ويطلب منها تخفيض السعر ويلحّ عليهم في ذلك.
أكرم الله العم محمد ووهبه مكارم الأخلاق ولين الجانب مع الجميع، وكل من زاره وقابله يلقى ما يليق به من الإكرام والحفاوة، وقد مُتِّع بصدر رحب مع القريب والبعيد، وحُبّب إليه الخير والبذل والعطاء، ومزايا كثيرة، وفضائل عظيمة، ولا غرو؛ فقد نشأ في ربوع المحامد، وترعرع بلبان الكمال في كنف والده. هذا ما كان عليه من الأخلاق العظيمة، والسجايا العالية من التواضع وعدم التكلف ولم يكن لمنصبه في الوزارة الذي وصل فيه للمرتبة الثالثة عشرة أي تأثير على بساطته وتعامله مع الآخرين بل كان سمحاً متواضعاً وباب مكتبه مفتوح للجميع ولم يكن لديه سكرتير أو موظف يساعده في أداء عمله، وعرف بعفة اللسان والصبر على الأذى والكفاف عن أعراض الناس، ولم يعهد عليه الرد على أي إساءة ولا يرضى بإيذاء أحد، وكان يلتزم الصمت إذا سمع من أحد شيئاً، وترك وراء ظهره الجدال والنقاش فما تسمع منه إلا التواصي بالخير.
ورغم كثرة هذه الأعمال التي نهض بها، إلا أنه كان ملازماً لوالديه وباراً بهما وقريباً من أخواته وأسرته، وسخّر وقته وأفنى عمره في خدمتهم ومتابعة أحوالهم، ورفض المناصب والتكليفات التي تليق بخبرته وكفاءته؛ بسبب حرصه على ملازمة والديه والبقاء معهم، وكان سنداً وعضداً لأسرته ومعارفه فسعى في حاجتهم وشفع لهم فيما يمكن الشفاعة فيه مستثمراً مكانته وتقدير المسؤولين له، ولم ينقطع طيلة سنوات عمره عن التواصل مع جميع أقاربه بالسؤال للاطمئنان وتلمّس احتياجاتهم، وما أنسى اتصالاته الدائمة بي للسؤال عن حال والديّ وإخواني وعمّاتي، ولن أنسى يا عمّ حين همست بأذني مرة قبل عشرين عاماً وقلت لي: (أبوكم وحيد وما لكم أعمام لكن أنا عمّكم إن احتجتم شي)، وحين نلْتُ شهادة الدكتوراه كتب مقالاً عني في الجريدة، وقال لي: (من فرحي بك كتبته عنك حتى أولادي لم أكتب عنهم).
وهو الداعم الأول لاجتماع الأسرة السنوي، وكان حريصاً على لمّ الشمل والبعد عما يكدّر الخواطر، وكان يتابع الترتيب والاستعداد للاجتماعات بنفسه، ولم يكن يسبقه أحد إلى حضور الاجتماع، وكان سنداً للعاملين ومحفّزاً ومشجعاً لهم ومرجعاً يجدون فيه العقل الراجح والرأي الثاقب والعين البصيرة، لقد رحل العم وترك سيرة ملهمة حافلة بالعطاء والبذل وصلة الرحم، وبقيت مواقفه وتوجيهاته حاضرة في الأذهان والقلوب ونبراساً يستضاء بها، ونستلهم منها مبادئ المثابرة والإخلاص والتفاني في العمل. أحبَّ مسقط رأسه محافظة الزلفي، ولها منزلة رفيعة عنده، فكانت هوى قلبه، وشغل خواطره، وصبابة نفسه، وكان لا يساوي بها شيئاً، وعرف عنه التفاني في خدمتها، وكان يأنس ويطرب إذا سمع ما يسرُّ عنها.
رزقَهُ الله زوجة صالحة شاركته أعباء الحياة، وتحمّلت شظف العيش، وشاطرته همومه، ووقفت معه بالسراء والضراء فنعم الزوجة أم ناصر -حفظها الله ورعاها-، وانتهج العم محمد في تعامله مع أولاده مبدأ اللين والمعاملة الحسنة، وكان قريباً منهم، ويتعامل مع كل واحدٍ منهم على قدر سنّه فهو أب للصغير وأخ وصديق للكبير، وأسدى لهم النصح والتوجيه، وأرشدهم لما يراه صواباً، ولم يفْرِض على أحدٍ منهم رأيه خاصة فيما يتعلق بمستقبلهم الوظيفي، ومن فضل الله علينا بالأسرة أنه خلّف ذرية نجباء كرام تربوا على محاسن الأخلاق وكريم العادات، وتهذبوا بالعلم والمعرفة، وتميزوا بالنبوغ والفضل، وساروا على منواله وحذوا حذوه بالطيب والفضائل، وهم سعادة اللواء بحري ناصر، والأستاذ الدكتور جبر والأستاذ داود وعبد العزيز والدكتورة حصة والمعلمات منيرة وطرفة وفاطمة والأستاذات عليا ونورة ودلال وعزيزة وتهاني واللولو.
وفي السادس والعشرين من شهر رمضان لعام 1444 انتقل إلى جوار ربه تاركاً الذكر الحسن والسيرة العطرة، فرحم الله أبا ناصر رحمة الأبرار، وأنزله منازل الأخيار في الفردوس الأعلى من الجنة، وجعل ما أصابه كفارة له، ووفّق أولاده البارّين والأوفياء ليكتبوا لنا شيئاً من مواقفه وذكرياته وتجاربه، وجبر مصابهم وربط على قلوبهم وأنزل عليهم السكينة والرحمة، وجمعنا وإياه ووالدينا في جنات النعيم، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، ولمثل هذا المصير صائرون.إن الثناء وذكر محاسن الفقيد يأتي من منطلق أن الناس هم شهود الله في أرضه، ونحن شهود على ما وجدناه ورأيناه في العم، وهذي عاجل بشرى المؤمن، وهذا مما يسعد أولاده ويخفف من الحزن على رحيله، ومصابُنا كلنا بالفقيد عظيم، ووقعُهُ في قلوبنا أليم، وما لهذا الخطب العميم إلا جميل الصبر، وعزاءٌ للأسرة المفجوعة فيك يا عمي، وسلوى للقلوب المكلومة بفقدك -وما أكثرها-، وجزاءٌ تلقاه في هذه الدنيا طيب ذكر، وعند ربّك نعيم وأجر.
إلى رحمةِ المولى مضى وهو آمِلٌ
لِمَقْعَدِ صِدْقٍ عند أَكْرَمِ مَالِكِ
ولمّا مضى أبكى القلوبَ توجُّعاً
وإنْ كان ذا وَجْهٍ من الْبِشْرِ ضاحِكِ
رحمك الله على ما حظيت به من سمعة وأثر طيب يحكى ويروى، وهذا هو عزائي وأنسي وراحة نفسي، وفي عزائه كان الكلُّ مُعزّى، رأينا البعيد حزيناً لفقده قبل القريب، والصغير قبل الكبير، وستبقى يا عمُّ ذكراك بين ثنايا القلب والوجدان، وستبقى استراحة الأسرة، والمساجد التي سعيت في بنائها وترميمها، وتفطير الصوام في ساحات الحرم، والأسر المتعففة في وسط الرياض التي كنت ترعاها وتتحمل عنها الإيجار شاهداً على بذلك المعروف وحبّك الخير، جعلها الله حجاباً لك عن النار.
** **
بدر بن ناصر صالح الجبر - كلية اللغة العربية بالرياض