د.عبدالله بن موسى الطاير
تتلاشى الحدود بين الخرافة والمؤامرة، كما تذوب الفوارق التعليمية ويتزاوج الجهل والعلم، والتقدم والتخلف والتحضر والهمجية لتلد المجتمعات حركات وخرافات عابرة للوعي والمنطق والمعقول.
نشتكي من الإعلام الغربي عموماً، والأمريكي خاصة أنه يلتقط الغريب النادر من أساليب حياتنا ويصنع منها قصصاً مثيرة لجذب المتلقين، فنتحول إلى مادة ترفيهية شهية للمجتمعات «المتحضرة» التي ترى في تلك القصص مناقضات صارخة للقيم الغربية. لقد ارتبطت صورتنا الذهنية في الغرب بجملة من السلبيات التي لم نتحلل منها على مدى عقود، وفي المقابل ابتعلنا طعم الصورة الذهنية المثالية التي صنعتها الآلة الإعلامية الضخمة للغرب وثقافته وقيمه.
ليس في الوجود مجتمع مثالي، وإنما حرفية إعلامية قادرة على صناعة المحتوى اللافت للانتباه، وفي أحيان كثيرة بهدف الإثارة الإعلامية لا بقصد الإساءة المتعمدة.
أمريكا أم الخرافات والمؤامرات وأبوها، وعلى الرغم من كونها بلد العلم والعقلانية والتجربة والبرهان، والمختبر والمعمل، فإنها غارقة حتى نخبها فيما وراء المعقول.
اليوم، ومع إعلان الرئيس بايدن ترشحه رسمياً لفترة ثانية في انتخابات عام 2024م، والتي سبقه بالترشح لها سلفه دونالد ترامب، لم يعد في أمريكا صوت يعلو فوق صوت الخرافة وخطاب المؤامرة وبخاصة بين أتباع الحزب الجمهوري.
عام 2017، وبالتحديد في أكتوبر منه نشر أحد المواقع ملصقاً لشخص مجهول، أتبعه بعدد من المنشورات مدعياً أن لديه مستوى موافقة أمنية وأنه سيواصل نشراته تباعاً. كانت تلك ولادة حركة تسمى QAnon، سرعان ما انتشرت روايتها انتشار النار في الهشيم، وينتمي لها الجهلاء وعامة الشعب والمتعلمون والطلبة والأطباء والمعلمون على حدٍّ سواء إذ وجدت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث في سبتمبر 2020 أن ما يقرب من نصف الأمريكيين قد سمعوا عنها، وكان لخُمسهم نظرة إيجابية، إذاً فنحو 7.500.000 أمريكي متعاطف مع الأيدلوجية التي تقوم على أساس أن الرئيس ترامب يشن حرباً سرية ضد النخبة من عبدة الشيطان المهووسين بالأطفال سواء في الحكومة أو الشركات أو وسائل الإعلام. ويزعمون أن أمريكا تدار من قبل عصابة من المتحرشين بالأطفال وعبدة الشيطان الذين يديرون عملية عالمية للاتجار الجنسي بالأطفال وأن الرئيس السابق ترامب هو الشخص الوحيد الذي يمكنه إيقاف قوى الشر التي يقودها أقوى الناس في العالم - جبابرة هوليوود، والحزب الديمقراطي، والشركات الكبرى - التي أجبرت أطفالاً على العيش في آلاف الأميال من الأنفاق تحت الأرض بعيداً عن الأنظار إلى أن تنتج أجسادهم مادة كظرية نادرة يشربها المشاهير وأغنى الممولين في العالم ليبقوا شباباً.
ماذا فعل ترامب لإنقاذ هؤلاء الأطفال؟ وفقاً لراوية الحركة فقد استخدم الرئيس ترامب ومعه الجيش جائحة كوفيد-19 كغطاء لإنقاذ الأطفال، إذ كانت سفن المستشفيات التابعة للبحرية التي انتشرت لدعم المستشفيات لاحتواء آثار الفيروس تعالج سراً أولئك الأطفال الذين تم إنقاذهم. ويذهب أتباع الحركة إلى أن معظم الزلازل إنما هي أحداث زلزالية مفتعلة نتيجة قيام الجيش بهدم مخابئ الاستغلال الجنسي للأطفال تحت الأرض. إذاً فالرئيس ترامب كان، في الرئاسة، وسيعود إليها، فهو بالنسبة للحركة منقذ سياسي سيستعيد أمريكا «وسوف ينهض من تحت الرماد في نوفمبر 2024م على الرغم من الاضطهاد والمعاناة».
ويذهب الأتباع إلى أن الجيش الأمريكي حريص على الإطاحة بالدولة العميقة، ولذلك فقد أوعز لدونالد ترامب للترشح لمنصب الرئيس، لكن الدولة العميقة التي تسيطر على وسائل الإعلام سرعان ما حاولت تشويه سمعته، وسرقت منه انتخابات 2020، ولكنه سيفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة ويعود للحكم، وسيعتقل قادة الدولة العميقة ونجوم المال ونجوم هوليود من الديموقراطيين ويزج بهم في خليج غوانتانامو في عملية «الصحوة الكبرى»، التي ستعدم بموجبها شخصيات بارزة مثل المرشحة الرئاسية السابقة هيلاري كلينتون.
يعتقد العديد من أتباع هذه الحركة أن الرئيس كينيدي كان على وشك الكشف عن وجود الحكومة السرية عندما اغتيل، وأن الرصاص أطلق على الرئيس ريغان بناءً على أوامر من الدولة العميقة، وأن جميع الرؤساء الذين جاؤوا بعد ريجان - باستثناء الرئيس ترامب - كانوا عملاء للدولة العميقة.
يهدد أحد المنتمين للحركة بأنه سيشن عملية عسكرية شبيهة بـ «الفلوجة» في العاصمة الأمريكية لنصرة الرئيس ترامب، وتذهب تابعة أخرى إلى أن هناك قوة فضائية لديها كل شيء، وستقف مع ترامب، وأن الأخير لديه كل المعلومات عنها.
هذه الخرافات تتداول على نطاق واسع عبر البرامج الإذاعية والتلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي، ويزداد عدد المؤمنين بها والمتعاطفين معها، وهذا ليس في دولة من دول العالم الثالث وإنما في أمريكا.