رمضان جريدي العنزي
اختلت الكثير من الموازين والقيم والمبادىء والمفاهيم، تبدلت وتغيرت، حتى في أصعب الظروف وأحلك المواقف وأشد حالات الحزن والوجد والفراق، لقد أصبح للدفن والعزاء طابع وبرستيج مغاير، بعيداً عن المتعارف عليه من أداء هذا الواجب الإنساني البحت، والتي كانت في ظل ضوابط معينة، والتزام خاص، ومشاركة وجدانية خالصة وصادقة، لقد برزت عادات مؤخراً يتبعها كثيرٌ من المعزين والمشيعين، منها لبس البشت والتفنن في ارتدائه والتهندم الكامل والتعطر وكأنه في مناسبة فرح لا ترح، يأتي أحدهم وهو بكامل أناقته وبشته والذي غالباً ما يكون من أحدث الصيحات، ناهيك عن شماغه أو غترته ذات الماركة ومسبحته وعطره، لهؤلاء اختلال في الشخصية الإنسانية، واللهاث وراء الفلاش والضوء، حتى أفقدها رشدها، وأوردها الهوان والتصرفات اللاعقلانية.
إن الرجال لا يحكم عليهم من خلال ملامحهم البدنية ولبسهم و(كشختهم)، وإنما يحكم عليهم من خلال ما يحملونه من مبادىء وقيم وثقة بالنفس وتواضع، بعيداً عن (العنطسة والفنطسة), إن معيار الرجال أنهم فرسان في كل ميدان، في الفرح كانوا أم في الترح، لا يتبدلون ولا يتغيرون وثابتون على المبادىء القيمة.
في الماضي كان للمقبرة ومكان العزاء هيبة، والناس يأتون بأشكالهم ولباسهم الطبيعي المجرد، وبدون أي تكلفة أو بهرجة، مبالغات كبيرة يشهدها الدفن ومجالس العزاء في هذا الوقت، حتى في المأكل والمشرب والتي أصبح البعض يعملها على شكل بوفيه مفتوح مليء بما لذّ وطاب من أنواع الأطعمة والأشربة والحلى، وكأنه في عرس أو حفلة تخرج وليس في عزاء، صارت مجالس العزاء أشبه بالمقاهي والاستراحات وأمكنة الترفيه، لقد تغير كل شيء، لم يعد الناس كالماضي، بات كل شيء سطحياً ومشوهاً، باتت الناس تدفن ميتها، وبعد ساعات تسمع الأصوات والضحكات والقهقهات وتبادل الأخبار والصفقات.
في الماضي كان للموت وقع وهيبة، وللراحلين فقدٌ، ولمجالس العزاء صمت ودعاء، عندما تكون في المقبرة للمشاركة في دفن إنسان، ستجد أن عدد الذين يتبادلون الطرائف أكثر من الذين يواسون ويتأملون ويتعظون ويتدبرون، وستجد البعض الآخر مشغولين بالتقاط الصور والسنابات لبثها، وعندما تكون في مجالس العزاء تسمع أقوى العبارات في رثاء الراحل، منتقين له أجمل الأدعية، مع الإشادة به كثيراً، وعندما كان حياً بينهم لم يكلفوا أنفسهم بالاطمئنان عليه، والسؤال عنه، ولم يهتموا به، بل ربما كانوا يلمزون به ويهمزون، إنها مفارقات عجيبة، في زمن عجيب، فيه يكاد الموت يفقد وقعه وهيبته.
إن من يتابع مراسم العزاء اليوم، سيلاحظ كيف تجردت من معانيها الوعظية، وتغافل الناس عن مغزاها الديني والبعد الإنساني، وأضحى الحضور طقساً عادياً لا ترجف فيه القلوب ولا توجل، صار العزاء مناسبة للتباهي والتفاخر، والأكل الفاخر والشرب اللذيذ، فيا أيها الناس عودوا إلى رشدكم، واهتموا بتعاليم دينكم، ولا تكونوا في الغفلة نائمين، ولا في الغي تائهين، وأعلموا بأنكم إلى ربكم منقلبون وراجعون، فلا تطيعوا العابثين والمثبطين واللاهين، وتيقنوا بأنكم ستقفون بين من يعلم وساوس الصدور، وبواطن الأمور، وأعلموا أيضاً أن زرعاً في الدنيا حصد في الآخرة، ومن جد فيها وجد جهده في الآخرة، فاستفيقوا قبل أن توشك شموسكم على الغروب.