لم يكن يوم الجمعة الحادي عشر من شعبان يوما عاديا في حياتنا فقد كان هذا اليوم هو اليوم الثاني عشر منذ إصابة الوالدة بالوعكة الصحية المفاجئة التي تم بموجبها نقلها للمستشفى لتلقي العلاج.
في هذا اليوم ازدادت حالتها سوءاً وتم نقلها إلى العناية المركزة بسبب نقص الأكسجين، كان يوما من أصعب أيام الحياة وانا أرى الحنونة في هذا الوضع الصحي، كنت أتمنى وادعو الله أن يأخذ من صحتي ويمنحها ومن أيامي ويعطيها وانقطعت بي كل السبل إلا من سبيل رحمة أرحم الراحمين.
عاد بي الزمن «عقوداً» محاولاً أن أتذكر كم كانت الحنونة تسهر وتصبر وتضحي وتسامح وتتجاوز وتتحمل مقابل أن ترى الابتسامة على محيا أبنائها وبناتها وسعادتهم وكم استمرت تلك التضحيات مع أحفادها حتى بعد أن تقدم بها العمر وأصبحت هي من تحتاج إلى العناية والمراعاة، استمرت بنفس القوة والتضحية والصبر على الرغم من تقصيرنا أبناءً وأحفاداً.
كانت الحنونة وعبر عقود من الزمن أكثر ما يفرحها ويسعدها أن تقوم بمساعدة محتاج أو تحقق رغبة مستحق كانت تحرص أن تفعل ذلك بنفسها وفي بعض الحالات كانت تكلفني بأعمال خير بالنيابة عنها.
كانت على مر العقود الماضية على تواصل دائم مع عوائل قد لا يستطيعون التواصل مع غيرها وتعودوا منها على مر الزمن بكرمها معهم وحرصها على البذل والعطاء وفك كربتهم ومساعدة محتاجهم
استمرت الحنونة بهذا الأمر دون كلل أو ملل أو تهاون منذ أن وعينا على الدنيا وحتى فقدت القدرة على التركيز خلال السنوات الأخيرة في حياتها.
كانت الحنونة قدوة للكثير من أفراد العائلة وللمقربين في العطف والتسامح وتجاهل التقصير مهما كان الأمر ومهما كانت الظروف.
عرفت الوالدة رحمة الله عليها ومنذ أمد بعيد بأنها نبراس للصلح والصفح والتجاوز فهي تحترم الكبار وتشاطرهم همومهم وتسهم قدر استطاعتها في تذليل مصاعبهم وتشفق على الصغار وتبذل كل الجهد في تلبية طلباتهم وتلتمس الأعذار لكل من أساء وتجبر وتجاهل واتبع هواه حتى لو كان من أقرب الناس.
اجتماعيا.. كانت الحنونة هي علامة بارزة على مستوى العائلة الكبيرة مع جيرانها وأحبتها وأقاربها وأقارب زوجها فقد عرفت الحنونة أنها محبوبة الجميع وضيف الشرف الرئيس في كل الاجتماعات والمناسبات لدرجة تصل إلى تأجيل المناسبات عندما تكون على ارتباط سابق.
أتذكر كثيرا عندما كانت في قوتها ونشاطها وعندما كانت تقضي شهر رمضان كاملا في رحاب مكة المكرمة برفقة والدي رحمه الله وأيضا في رحلاتها المستمرة لطيبة الطيبة برفقة بنات أختها كانت دعواتها وابتهالاتها ورجاؤها للباري لنا ولأبنائنا بالتوفيق والسعادة والصلاح تصلنا وتؤثر في حياتنا وحياة أبنائنا.
رحم الله الوالدة الحنونة واسكنها فسيح جناته وجمعنا الله بها وبوالدي والأعمام والعمات والأخوال والخالات وكل من له حق علينا في مستقر رحمته وجنة عرضها السماوات والأرض.
إنني هنا وفي هذا الرثاء المتواضع أقدم دعوة ونصيحة صادرة من القلب لكل من قصر في حق الحنونة «قولا» أو «فعلا» أو «عملا» ولكل من تجاهل أو تهاون في حق الحنونة إلى العودة إلى الله قبل فوات الأوان والندم على ما فات والإكثار من الدعاء والصدقة وطلب الصفح فالعمر يمضي وحق الحنونة عند الله باقٍ.
في يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر رمضان وفي ليلة السابع والعشرين وهي ليلة من أعظم الليالي أسلمت الحنونة الروح لباريها بعد حياة حافلة بالتضحيات والصبر والسيرة الحسنه العطرة التي نفخر ونعتز بها. في هذا اليوم أقفل في وجهي باب من أبواب الجنة وإنني ابتهل إلى الله أن يجمعني بها وبوالدي في مستهل رحمته على سرر متقابلين.
سيبقى الحنين والشوق للحنونة مهما طال الزمن وتسارعت الأيام فعلى المستوى الشخصي فقدت جزءاً كبيراً من فؤادي فالفراق هو القاتل الصامت والقاهر المميت والجرح الذي لا يبرأ، سيبقى الألم كبيرا وسيظل الجرح عميقا ولكن الإيمان واليقين بأن الحنونة قد ذهبت إلى من هو أحن عليها من كل البشر وإن اجتمع حنانهم وعطفهم في رجل واحد غادرت أمي هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، ليس هناك وداع فيما بيني وبينك يا أمي فأينما كنت ستظلين معي داخل مشاعري ووجداني.
وداعاً يا أمي فجسدك الغائب عن هذه الدنيا قد ذهب ولكن نور وجهك ونبض حبك سيظل باقٍ داخل القلب يجري بالجسد كما تجري الدماء بالشرايين.
بالمقبرة حضر مئات الأشخاص من مدن مختلفة ليشاركونا العزاء والمواساة ولحظات توديع الحنونة وتحمل المشقة على الرغم من أننا في شهر الصيام، لقد كان لتواجدهم ومشاركتهم ومواساتهم الأثر الكبير في أنفسنا جميعا وهون علينا مصابنا الجلل.
من كرامات الله العظيمة وفضله علي بأن مكنني لحظة إسلامها الروح أن أكون بجوارها لأقوم برفع أصبع سبابتها الطاهرة ونطق الشهادة بالنيابة عنها كما استمر فضل الله العظيم إنه منحني المشاركة في إنزال الحنونة في قبرها ودفنها بيدي فالحمد لله على هذا الفضل العظيم.
خاتمة:
اللهم اغفر للحبيبة الغالية الحنونة موضي بنت حمد البليهيص وارحمها واعفو عنها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد ونقها من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم ادخلها الجنة بدون حساب ولا سابق عذاب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
** **
- فهد عبد الرحمن الحميدي