قليل من الرجال من حبب الله فيهم خلقه وجعل لهم قبولاً كبيراً لدى الناس، فنراهم وهم يحظون دوماً بتلك التجلة والاحترام والتقدير، وتبقى لهم بصمات وأثر في وجدانهم لما يملكونه من صفات حسنة وسجايا كريمة وأشعلوا شمعة العمر ليستنير الآخرون بنور الحقيقة وكمال العقيدة.
ومن هؤلاء الأستاذ الدكتور محمد سعيد بن سعد الحارثي أستاذ الفقه وأصوله بجامعة أم القرى سابقاً وفقيه ميسان الأكاديمي، الأخ والصديق الحميم والمثال المشرق للعالم المتواضع جم التواضع صاحب النهج الحكيم والخلق والدين القويم، والدماثة والسماحة والصدر النقي والقلب الودود الذي تفانى في خدمة بلاده وعمل وشارك في إثراء العلم وبناء الأجيال دون انتظار لكلمة شكر، وإنما بوفاء المواطن الصالح الذي يحمل في عنقه ديناً مستحقاً لحكومة بلاده وقادتها بعد أن يسرت له السبل لحصد ما ناله من درجات علمية وهيأت له من فرصة عظيمة لخدمة الوطن وأبناء الوطن والمساهمة في مسيرة التنمية والبناء.
أقول هذا بعد أن نمى لعلمي مؤخراً خبر يقول إنه قد تعرض لوعكة صحية سافر على إثرها للاستشفاء بالخارج ثم عاد قبيل شهر رمضان المنصرم ليستكمل علاجه بالبلاد، وإنني على علم يقين بأن كل من عرف أستاذنا القدير سواء من أصدقائه أو تلاميذه بالجامعة أو الأجيال التي تخرجت على يديه أو محبيه وعارفي مكانته العلمية والاجتماعية بأنهم لن يترددوا في رفع أكف الدعاء والضراعة لله بأن يكتب له الشفاء العاجل ويمتعه بتمام الصحة والعافية ويذهب عنه كل ضر ووصب وسقم وتعب، وكأني به وقد استحضر معاني ما قاله الشاعر سيد حافظ:
دعوت يا رب أني بت في كرب
ومسني الضر فاصرف عني الكربا
وكم لربك في الضراء من نعم
تستوجب الحمد لا تستوجب الطلبا
كم من صحيح سليم الجسم مكتمل
وبين جنبيه نفس تشتكي العطبا
والدكتور محمد سعيد الحارثي من مواليد ميسان بني الحارث عام 1362هـ وقد تلقى تعليمه الأولي بكافة مراحله بقريته الشعاعيب ثم حصل على بكالوريوس من جامعة أم القرى تخصص فقه، وواصل تعليمه العالي فحصل على درجة الماجستير عن رسالته في الرضاع المحرم للزواج، وكانت رسالته للدكتوراه بعنوان (الإفلاس وأثره في تصرفات المدين بتقدير ممتاز وذلك بتاريخ 26-8-1402هـ، ثم بدأت بعد ذلك مسيرته الوظيفية فانخرط في العمل الأكاديمي بجامعة أم القرى فعمل محاضراً بالجامعة، ثم ترقى إلى أستاذ مساعد ثم وكيل عميد شؤون الطلاب الذي تولاه لعدة فترات حتى تولاه رسمياً كعميد اعتباراً من عام 1408- 1412هـ، كما كلف بالعديد من المهام والعضويات ورئاسة العديد من اللجان ومنها عضو مجلس إدارة صندوق الطلاب، ونائب مشرف اللجنة الثقافية العامة بالجامعة، ورئيس لجنة تأديب الطلاب عدة فترات، ورئيس لجنة الإشراف على شؤون الطلاب الوافدين التابعة لشؤون الطلاب، ونائب رئيس مجلس شرف عشائر الجوالة، ونائب رئيس لجنة توجيه طلاب ومنسوبي الجامعة عن طريق الإرشاد وإلقاء المحاضرات والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والالتزام بالآداب الشرعية والمحافظة على الصلوات داخل الجامعة، ثم تولى رئيس قسم القضاء وذلك لمدة عامين اعتباراً من 15-7-1417هـ، وكان مشاركاً في البرنامج الثقافي لجامعة الملك فيصل للعام الجامعي 1410هـ، كما أشرف على العديد من رسائل الماجستير للطلاب والطالبات، حتى أحيل للتقاعد بتاريخ 29-2-1422هـ، وكانت له مشاركاته الفاعلة في الكثير من المنتديات العلمية والثقافية.
يا أبا سعد وبعد هذه السيرة العطرة والرحلة المميزة بالعطاء كم أنت جدير بالكلمات التي تخضب المعاني تكريماً ووفاءً لمسيرتك الحافلة في خدمة العلم والثقافة، وقد كنت ولازلت أحد الذين أشعلوا فينا جذوة الجد والعمل والطموح، وغرسوا فينا القيم السامية والمثل النبيلة، وممن لا تموت أشجارهم ولا تذبل سنابلهم وتنحني أغصانهم.
يا أبا سعد: وإن خذلك المرض فذاك بمشيئة الله أمر عارض وغمامة صيف عابرة لا تلبث أن تنقشع، فأنت لازلت في أول الحلم وفي أوج العطاء يفيض منك جمال الروح والحكمة والفطنة، ولازلنا ننتظر منك الكثير، وأعلم مدى ما يخالجك من حنين وما سكن في رحم الأيام من ذكريات، وأنت تتوق لقريتك (الشعاعيب) ومرابعها الخصبة المتوسدة على القمم الراسيات والذرى الشامخات في منطقة ميسان وهي الدلالة والسلالة المنسلة من محارة العشق والوجود وأرض الجدود، وأراك هناك في الذهاب والإياب بين تلك الشعاب والهضاب، تستعيد أيام الصبا والشباب، ورفقاء الطفولة وكل من حضروا وغابوا من رجالها ونسائها، وتناجي حجرها ومدرها وشجرها وطيرها وظلها وصحوها وبردها ومطرها وليلها ونهارها وكل معاني الألفة والمحبة والصفاء والالتقاء على القيم الأصيلة والشيم الجميلة.
يا أبا سعد رغم كل القروح وتشققات الروح فقد عهدناك ترسم دروباً وتتخطى خطوباً وتحلق في الآفاق بتلك الأجنحة المرفرفة بالأمل والثقة في الله وما عند الله الذي نسأله جل في علاه أن يهبك تمام الشفاء، وأن يتم عليك أنعمه ظاهرة وباطنة وأن يجزل لك مثوبة ما قدمته وغرسته من أعمال وقربات ومن الباقيات الصالحات وأدامك الله لمحبيك وعار في فضلك.